يُورد الفنان و الكاتب الأستاذ عبد الله بلعباس ، في الصفحة 33 ، من كتابه «مقام الإشارة « ( نشر شخصي ، 2025 ) ، الشذرة التالية :
« اليد تبني
العين تحرس
اللّغة تستأجر «
ولعل هذا الشاهد النصي الدال، خير مثال على كل من الجوهر الفلسفي و المدماك الجمالي، اللذين شُيِّدَ عليهما هذا المؤلَّفُ المركَّب من سجلين مشتبكين، وصقعين متجاذبين، تتخاصر فيها الكتابة و التصوير، فيتناوبان و يتعاونان على إنتاج نظام مغناطيسي من الدلالات المضمرة أو المنكشفة.
فها هي ذي يد الكاتب تنشئ، عبر آلية الكتابة المقطعية، نصا مكثفا، متقشفا، مفتتا، تيلغرافيا، مفتوحا على رياح المعاني و الترميزات . له القدرة الذاتية على إعادة ضمّ و وصل أجزائه المفصولة و أطرافه المفصومة .
أما العين فتصون، عبر جدلتي المرئي و اللامرئي، ما هو قابل للتشخيص و التمثيل ، كي لا يظل متملصا من الخيال، و مستعصيا على الإرادة، على اعتبار أن العين هي آلة حاذقة لصيد المجهول، ذاك الذي لا يدركه الذهن، و لا تطاله بقية الحواس.
في حين تغدو اللغة، وهي تمارس لعبة السياحة بين السنن الكتابي و المرجع البصري ، مستأجرة للفراغ بامتياز. فراغ المقام لا المقال . فراغ الزمان لا المكان . فراغ الامتلاء لا المهاوي . فراغ التشققات لا الالتئامات. فراغ الذات في نرجسيتها الضيقة لا فراغ الوجود في اتساعه الذكي .
لغة عبد الله بلعباس المحايدة كالنأي المترتب عن عبرة الكي، العامرة بالعسل المستخلص من كثافة اللسع، المبرية بريا صنو جزَّازة عشب قاطعة، أو بالأحرى أقصد لغة الشذرة عموما عبر تاريخها الأنطولوجي و اللساني الطويل و الإشكالي، بوصفها مجافاة راديكالية للبلاغة المنمقة، و تقليما صارما لأظفار الأبجدية، بل توترا حادا بين الكلام والصمت. صمت الجرم الصغير، الذي انطوت فيه أكوان كاملة موازية، وصمت قطرة الندى التي تزول في وهج الصباح بلا صدى أو جلبة.
فشذرات «مقام الإشارة» بلا أسلوب تقريبا . لغتها لها رائحة نمر هارب، نمر ضبابي، نمر يستخدم رائحته فحسب لا هيئته أو هيبته لصيد فرائسه من القراء الضالين داخل غابة التلقي المخيفة، مثلما سطَّر ذلك دانتي أليغري بطريقة ساخرة بين ثنايا مؤلّفه الطريف عن « اللغة العامية». يقول : «بعد أن خرجنا في رحلة صيد عبر الغابات و المراعي الإيطالية دون أن نعثر على النمر الذي نطارده ، سيكون من الجيد ، بغية اقتفاء أثره، أن نواصل التقدم الآن مؤازرين بأدوات أكثر عقلانية، بحيث يمكننا في النهاية، من خلال بحث دقيق و متأن، أن نقبض على هذا الحيوان الذي نشم رائحته في كل مكان ، من دون أن نتمكن من رؤيته في أي مكان» ( أورده أدريان برافي في كتابه « غيرة اللغات «، ص 61 ).
وحتى بعد القبض عمليا على هذا الوحش المزعوم، تظل تعليمات ما سيحدث بعد ذلك ناقصة، كما عبَّر عن ذلك سليم بركات في واحدة من بروقه المضيئة : « كيف نختطف نمرا من حديقة الحيوان بلا إتقان لغته، لإقناعه بفوائد خطفه « ( تأليب المعاني على أصولها، وتصعيد المطالب بحقوق النثر، ص 45).
علاوة على جميع ما سبق، وأنا أستعرض بالقراءة المتأملة والرؤية المتبصرة كلا من موشور الشذرات واللوحات في هذا السفر الجميل، استنبطت أو ربما تهيأ لي بأن لكل منهما إيقاعا خفيا بمقدار مدروس، ونبضا سريا بمقياس معلوم .
إذ أن اللوحة تقطع انسيابية أو غلو المعاني داخل الشذرة ، مثلما لو أنها كابح نفسي فطري أو حاجز جيولوجي وسط طبيعة ميتة، و بالمقابل فإن الشذرة الموالية تضبط درجة انبساط و إسراف التصوير داخل اللوحة، لدرجة أنك تحسب الفنان الكاتب عبد الله بلعباس كيميائيا متخصصا في تقطير النبضات بين الطرسين بتسلسل منتظم ، كأنما يسكب دفقة روح في وعاء جسد أو يصب قطعة جسد في قالب روح ، خالقا احساسا ديناميا بأن كتابهُ في جماع مكوناته قادر على التحوّل في أية لحظة إلى معرض مصغر حي متحرك ، أو إلى نموذج لمتحف متخيل لمحاكاة الواقع الافتراضي ، ولم لا إلى غاليري وهمي للرؤية المجسمة ذات العمق بالأبعاد الثلاثية .
أيضا، وجدت أن الإمدادات والامتدادات بينهما، أي بين شذرات و لوحات الفنان الكاتب عبد الله بلعباس تخضع لما يسميه إدوار غليسون ﺑ» شعرية أو فلسفة العلاقة «. فهما ينتميان بجدارة إلى « الفكر الأرخبيلي»، الذي أساسه المحاولة، و الرغبة الحدسية ، والتصور الدائم للفُرج و الخروم داخل بناءات دلالية غير قابلة للإحاطة . يقول الأديب والمفكّر المارتنيكي صاحب «متخيّل اللغات» : «الأرخبيل منكسر ، ونحن نذهب إلى تكرار القول ، على طريقة الخبراء في علوم السديم بأنه متجزئ . هو ضروري في كليته وهش أو احتمالي في وحدته، عابر وباق، إنه حالة من حالات العالم . تغطيه المياه الفائضة أولا، وسيغرق قريبا في اللجة « ( فلسفة العلاقة ، ص36، تر : عز الدين الخطابي ) .
تبعا لهذا التخريج، أتصور « مقام الإشارة» مجموعة من الأرخبيلات، و لا أخاله قارة كاملة اليابسة. أرخبيلات مفككة ، تكتنفها أنواء الاهتزازات، والتخوم، والتيه، والتهجينات، و غير المتوقع، والنَكَهَات، وفوضى نباتات الشلالات، و الاحتمالات الجميلة بغرق تضاريس هذي الأرخبيلات مستقبلا ذات غمر ماء أو غطرسة موج.
يقول عبد الله بلعباس في كل من الصفحتين 113 و119، تقاطعا مع هذا التخمين الذي ذهبت إليه على سبيل الموازنة بين مبدعين ينتميان إلى « هوية علائقية» بين الفنون والأنواع داخل» الكل – العالمي « :
« هويتك
ذاك الغياب
الذي يسكنك «
ثم يضيف :
«أغزل القادم
بخيط
من سؤال
ويد من رعشة «
في الحقيقة، ومع اقترابي من الانتهاء من قراءة « مقام الإشارة «، تبين لي بأن هذا النص الفسيفسائي هو أكثر من شذرات شعرية أو فلسفية أو تأملية، وكذلك هو أدهى من محاولة مجازية لتعويم مدينة « الجديدة «(مسقط رأسه الكاتب) في مياه أرخبيلات شبحية لا تدركها لا الرؤية ولا الحس، ولكن قد تستوعبها نمور الحلم والرؤيا عند بورخيس، وإنما هو «كتاب طريق» على طريقة المعلّم لاوتسو . كتاب مُعلّم سئمت نفسه من الكلام ، فمشى على حُرقه، كي يصوغ كيانه وسيرته و معرفته وحكمته ومكابداته و غصصه في مقطوعات صغيرة كحبات ثمار فلسفة الزِّن الصوفيّة، ثم وضعها في نهاية المطاف داخل جراب اللانهائي.
إن هذا الكتاب هو الرياضة الروحية العليا للفنان الكاتب عبد الله بلعباس، الساعي بكل رصيده الثقافي والسياسي والفني والإنساني والنضالي الثري و الأغر لاختطاف المطلق ، ونحت الصمت .. المُتطلع إلى الصعود إلى الأزل بحبل من مسد، بيد أنه على الأرجح مضفور من رمل الوهم .. و التوّاق بقصارى نضارة الكلمات:
الكلمات
الكلمات
إلى ابتكار الهنيهة
الهنيهة
الهنيهة
التي تحلم بأن تصير أبدية
أبدية
أبدية.
(*) ألقيت هذه الشهادة بمناسبة اللقاء الاحتفالي بتجربة الفنان و الكاتب عبد الله بلعباس ، الذي نظمته جمعية هوس بالمحمدية ، بتعاون مع جمعية الأعمال الإجتماعية للتعليم ، وذلك يوم السبت 24 ماي 2025 ، بمشاركة الشاعر حسن نجمي ، الشاعر و الإعلامي عبد الحميد اجماهري، ، القاص أنيس الرافعي، القاص و الروائي سعيد منتسب، فيما قام بإدارة الأمسية الدكتورة أمل بنويس.