يقول عبد الرحمان منيف في كتابه لوعة الغياب: «الفرح والسعادة لحظات نحصل عليها اقتناصا، فتعطينا شعورا قويا وممتدا، أما الحزن والتعب والأسى واليأس فلها الأوقات الأطول …لذلك عندما نتعلق بالأمل ونفرد له مساحة واسعة … وبقدر ما يحزننا غياب الأشخاص الذين نحبهم نبحث في ما تركوه عن الآمال التي سعوا إليها وحفروا نحوها مسارات للحلم والضوء ..»
هي مناسبة نستحضر من خلالها رفيقا وصديقا عزيزا، وإعلاميا ملهما ظل منشغلا بالأسئلة الكبرى لبلده …جمال الذي خرج إلى أرض الله الواسعة بتربة أسفي الطيبة، وتدرج في دروبها العتيقة، واكتسب قيم أهلها الأصيلة ..
جمال كبر هنا بيننا، وتعلم دروس الحياة من حولنا، وراح للبحث عن الأعالى كما يبحث كل شاب طموح .. كان للسياق التحرري مطلع السبعينيات من القرن الماضي أثره، وكان للمسار الجامعي والنضال الطلابي في أوجه أثره وتأثيره، وكان للهيب سنوات الجمر الرهيبة فعله في توجيه الانتماء الفكري لجمال بتبني عقيدة اليسار بقبعة ترودسكي، قبل أن ينضج الخيار الديمقراطي بالنسبة له من داخل خيمة الاتحاد الاشتراكي الفسيحة .. كان جمال لحظئذ صوتا مشاكسا مثل أبناء جيله، واستمر كما هو الحال، يدافع من أجل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، من أجل التعددية السياسية، ومن أجل كسب مساحات أكبر في مربع التغيير والانتقال الديمقراطي …عاش ربيع السياسة كما مارسها النبلاء، وعاش على حلم الأمل كما يراه الأصفياء والأتقياء …عاش عفيفا وظل زاهدا مجبولا على حب البلاد ! ..
انتصر جمال في خياره المهني إلى الصحافة والإعلام ..فكان صوتا مميزا وقلما رصينا يفكك إشكالات البلد المعقدة .. ساعده، بشكل كبير، موقعه في مؤسسات إعلامية كبيرة، في ترسيخ الجدل السياسي المستفز لكل أوهام اليقين …وكان تخصصه في علم الاقتصاد موجها لافتتاحياته الرفيعة بكل المنابر التي مر منها …. أعمدة وافتتاحيات ومقالات تحليلية تكشف مسارات السياسات العمومية والبرامج التنموية الكبرى باحترافية كبيرة .. مقالات تحلل أعطاب وتعري اختلالات أحيانا كثيرة …لذلك اكتسب جمال تقديرا كبيرا من مختلف الدوائر، لأن الرجل كان يكتب بقلبه ووجدانه من أجل أن يتطور البلد ويتقدم المجتمع … عندما سئل عن دلالة تتويجه بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة سنتين قبل وفاته قال جمال: «هذه الجائزة هي رسالة من أجل الحفاظ على أخلاقيات المهنة، واليوم في المغرب نحن في حاجة إلى رفع مستوى النقاش العمومي من أجل بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي، وهذه مسؤولية ملقاة على عاتق الجيل الجديد من الصحفيين الشباب ..» هكذا كانت عقيدة جمال.. أن نمر في الحياة ونترك بصمتنا المضيئة ونمهد الطريق للأجيال الجديدة.
لذلك وأحيانا كثيرة، كان بكثير من الأسى والأسف يتحدث عن «موت السياسة» … وكان من باب الغيرة الوطنية ينبه إلى ضرورة تحصين المكتسبات الديمقراطية ببلادنا، وتعزيز بناء الثقة في المؤسسات وتطهير المشهد التمثيلي من كل المخاطر والتربصات المحدقة …كان يؤمن بأن في هذا البلد كفاءات وأطر ونخب ونساء وشباب جديرين بأن يكونوا في قلب الدينامية التنموية ببلادنا، وأن انسحابهم من واجهة العمل السياسي والمؤسساتي يشكل خسارة كبرى للوطن ….
هكذا كان جمال …بجمال روحه مسكونا بحب البلاد …ومنها أسفي موطنه الأصلي..
كان جمال لا يترد بالجهر بالأسئلة الحارقة لمدينته الوديعة أسفي، كان يؤمن بأن لهذه البلدة رصيدها التاريخي والحضاري، مدينة غنية بمواردها الطبيعية، وبرأسمالها البشري، فهي مؤهلة لأن تقلع وتحقق طفرتها التنموية الكبرى التي تنعكس على جودة الحياة وتحمي كرامة المواطنين، وتؤمن حقهم في العيش الكريم …
كانت أسفي بالنسبة له مجالا ترابيا ينتج الثروة ويدعم خزينة البلاد، وكان حريا بأصحاب القرار العمومي بأن يدمجوا أسفي ضمن مخططات التنموية الكبرى لتأخذ حظها من فرص التنمية، وتحضيرها لتصبح قطبا اقتصاديا جذابا للاستثمارات الكبرى المنتجة لفرص الشغل وللحياة الكريمة …كان جمال يحلم بمستقبل واعد لبلدته أسفي، وكان يلح على تعبئة الجهود والترافع الإيجابي لتأخذ أسفي نصيبها من الجهد التنموي الكبير الذي تشهده البلاد …
كان جمال صوتا صادقا، منصتا جيدا ومدافعا جسورا عن الانتظارات المشروعة .. لذلك ظل جمال إنسانا محترما من طرف مختلف الدوائر …
استحق جمال، وبجدارة الكبار، بأن يحظى، وهو في ذمة لله، بتعزية كريمة من جلالة الملك،حفظه لله، هي نفس الالتفاتة التي كرم بها جلالته كل أبناء أسفي البررة: «الأستاذ عبد لله الولادي، الأستاذة أسية الوديع، الدكتور محمد بنشريفة…رحمهم لله.
قال جلالة الملك في حق جمال براوي: “بهذه المناسبة المحزنة، نعرب لكم ومن خلالكم لكافة أهلكم وذويكم، ولأسرة الفقيد الإعلامية الوطنية، ولسائر أصدقائه ومحبيه، عن أحر التعازي وأصدق مشاعر المواساة، في رحيل صحفي ومحلل سياسي واقتصادي مقتدر، مشهود له بمسار إعلامي متميز، جبل على العطاء والوفاء الثابت لمبادئ المهنة وأخلاقياتها التي جسدها، بكل جرأة وموضوعية، في دفاعه المستميت، وبحس وطني صادق وغيور، عن المصالح العليا لبلده، وعن ثوابت الأمة ومقدساتها”.
رحم لله جمال وصادق العزاء مجددا لزوجته وأبنائه.
*تليت هذه الشهادة في الحفل التأبيني الذي نظم بأسفي تكريما لروحه الطاهرة.