شوقي بزيع .. الاحتفاء بالقيمة

 

– 1 –
بعد الرائد خليل حاوي، جاء مع مطالع السبعينات (القرن الماضي) جيل شعري مبدع أصيل مثقف، منفتح على تيارات الحداثة الشعرية، محلي وعربي وغربي في وقت واحد، هو ما تمَّ الاصطلاح على تسميته في لبنان بـ «شعراء الجنوب» (الجنوب اللبناني) .
هؤلاء الشعراء شديدو التوتر والوهج، طالعون من حرارة أرض وشعب، وجدل تراث عظيم مع معاصرة، ومزودون بثقافة وموهبة ساطعة، وليس عبثاً أن يمثلوا الآن في لبنان، زهرة الشعر العربي المعاصر. ليسوا أسرى فنتازيا الأشكال، وفقاعات حداثوية، مع معرفتهم لتيارات الشعر الغربي في العديد من مراحلها، وإحاطتهم بما يُكتب بالعربية، وصلتهم باللغة متينة، كما هم على تماس العصب برواد أمثال بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وعبد الوهاب البياتي وأدونيس، وهم على تماس مع محمود درويش أيضاً، خارج إطار الريادة.
لكن البعض منهم قد سكت، وانصرف آخرون إلى أجناس أخرى، ولم يبق من هذا الجيل إلا من يمثل الآن اللحظة الشعرية المعاصرة في لبنان، وهم، من وجهة نظري، الراحل محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وجودت فخر الدين، مع تفرد كل شاعر منهم بعالمه ولغته، وهم شعراء يحتلون عند المتلقي العربي المتابع مكانة متميزة، وهم الأقرب إلى وجدانه.

– 2 –
ولد الشاعر شوقي بزيع ( 1951 ) في صور جنوب لبنان، وبالذات في قرية « زبقين» الواقعة على رأس مرتفع أرضي مميز يطل على نصف رقعة الجنوب اللبناني المتاخم لفلسطين.
هو أحد أبرز شعراء التفعيلة في لبنان والوطن العربي، وواحد من شعراء السبعينات الذين وفدوا من جنوب لبنان (جغرافيا وتاريخيا) محتلين جزءاً واسعاً من المشهد الشعري، وبقدر ما كانت قصيدة (بزيع) جنوبية الهوى، بقدر ما كانت عربية اللغة والانتماء.
لقد شكل مع مجايليه من شعراء التفعيلة امتداداً للشاعر العظيم بدر شاكر السياب، لكن تقاطع شاعرنا ( بزيع) زمنيا وفي شكل القصيدة مع آخرين لم يأخذ منه أبداً فرادته وتميزه، هو الذي استطاع باقتدار واضح أن يجمع بين شعر ملتزم بقضية وبين كتابة الأهواء الجامحة، مستفيداً من التراث الشعري العربي ومن الفولكلور الشعبي ومن إرث عالمي في القراءات المتعددة.
وهو شاعر المرأة أيضاً والرغبات التي تحيط بحياته وقصائده. جاور بين الحب والموت، بين صوت الجماعة والأنا الخاصة وبين الواقع الحاد والمتخيل الأسطوري.
إنه صاحب حضور شعري بالغ العذوبة، كتب أشكال القصيدة وتنوعاتها التي تكشف عنها مجاميعه العديدة. ترتكز قصائده إلى فضاءات الرمز التاريخي والأسطوري والديني والشعري والفولكلوري / الشعبي، بالإضافة إلى شتى الجماليات الفنية. إنه يمسك لغته الفارهة/ البديعة ويطلق أقواس قزح الشعر.
لقد تراوحت التجربة الشعرية عند شوقي بزيع، في معظمها، بين ثلاثة أقانيم/ مدارات ، تلك التي تمحورت حول إخلاصه الشديدة للمكان (الجنوب / الوطن)، واحتفائه بـ: الشهادة / المقاومة، والمرأة.
ونحن من خلال اقترابنا من منجزه الشعري المفعم بالخصوبة، والغني بالرؤى والدلالات والرموز، والمحتفي بالصور الشعرية المدهشة، سنكتفي، في هذه الصفحات الاحتفائية، بالإشارة إلى أبرز ملامح هذه القضايا/ الموضوعات لديه من خلال توقفنا عند بعض قصائده الدالة أو مجموعاته الشعرية.

– 3 –
«– أيُّ الفصولِ أحبُّ إليكَ؟
الجنوبُ
وأيُّ القبور ؟
الجنوبُ
وأيُّ المواعيدِ أيُّ المواليدِ أَيُّ الجراحِ؟
الجنوبُ
إذن فاحترقْ في هواءِ الجنوبْ ! «.
الجنوب بعوالمه المتعددة (الإنسان ـ المزارع ـ الأرض ـ الطقوس ـ المياه ـ تاريخ فجائعه الطويل) وباعتباره المهد والنشأة، ساهم مساهمة جليلة في تشكيل عوالمه الشعرية، خاصة في مراحلها الأولى. فقرية الشاعر، وعالم الجنوب اللبناني بقراه بوجه عام، كان عالماً مفتوحاً، بالنسبة للشاعر، على كم هائل من الألوان والظلال والأسرار والمساحات والإيقاعات الحياتية والإنسانية، منها، بالطبع، مشاهد الحزن الجماعي الذي ينعقد سنوياً في مواسم معينة حيث يبكي الناس من خلالها أولئك الشهداء الذين سقطوا قبل أكثر من ألف عام في كربلاء، ويمارسون فعل الندامة الأبدي، وهذا يذكرنا بأصوات الغناء في مجالس العزاء في عاشوراء. بالإضافة لما كانت تنطوي عليه الأعراس والمآتم والحفلات من تقاليد عريقة وأغاني شعبية وأزجال. الجنوب هو معاناة الفلاح الملتصق بمزارع التبغ والكروم ، الصادح بالأغاني والأهازيج.
لطالما تشبث شاعرنا بأهداب قريته الجنوبية، وكان كثير الحنين إليها لاستعادة ذكريات الصِّبا والشباب، إنها عشقه الأول. لكن الجنوب، هو كذلك، ذلك الذي عُمِّد ترابه بدماء الشهداء، ليحافظ على ما تبقّى من كبرياء الوطن والأمة، فتتَّسع رقعة الجنوب لتصير هي الوطن.
من هنا شكلت صورة الدم ملمحاً بارزاً في شعره، خاصة في ديوانيه «عناوين سريعة لوطن مقتول» و «الرحيل إلى شمس يثرب» اللذين كُتبا أثناء الأزمة اللبنانية التي أدت إلى احتلال العدو الصهيوني لجنوب لبنان في منتصف السبعينات، ووصلت الأزمة إلى أشدها في بداية 1976 حيث ازدادت حدة وقسوة حتى أصبح يُسجّل يومياً مئات الإصابات والقتلى.
وحسبنا هنا أن نقدم عيّنة من صور الدم في هذين المجموعتين الشعريتين :
«لعلَّ دماً قادماً من صراخ العشايا يمرّ.. ويشتعلُ العابرونْ» .
«هذا دمٌ لا يغيبُ.. دمٌ لا يقاومُ «-» خرجتْ بيروتُ نحو الغسق الأصليِّ تستل الدم الحارس» – «بيروتُ الدم السائبُ في فوضى اللغاتْ».
«دمهمْ في الحكايا… وخطاهمْ تشير إلى زرقة في السماءْ
فانهضي من جذوع الدماءْ
إنهضي .. إن شمسَ المساكينِ لا تحسن الإنحناء « .
« فإن أورقَ الدَّم والأرضُ ألغتْ مواعيدها» – «وقفتُ على باب تلك المدينة أُحصي دمَ الذاهبينَ إلى حربها « – «هي الأرضُ تدخل في الدورة الدمويّة …». « وامتزجتْ بالدماء السنابلْ» – « إنّ دمي موصلٌ للتراب» .
«هو الدَّمُ يرفع قاماتنا فوق هذا الحطامْ
هو الدَّم يستنهض الأرضَ فينا» .
« لأن الجنوبَ دمي المتأخِّر سوف أموتْ«.
« في الأفق دمٌ ورعودْ» . – «زعموا أن تراباً كانْ
ودماً طفلا سال على الصخرِ
لتشربه الوديانْ» .
لقد شكل الدم خصوصية مميزة ولازمة جوهرية على المستوى الدلالي في العديد من قصائد المجموعتين السالفتين، فكما اقترن بالتحدي والمقاومة، والتعبير عن المواجهة المشتعلة تجاه الغزو الصهيوني للجنوب اللبناني، فقد ارتبط، من جهة أخرى، بالأرض والخصوبة والتجدد والتكوين والميلاد والمستقبل القادم، ليكون بديلا عن العقم السائد في الواقع المعيش.
ولربما نكون على حق ، في هذا المجال، لو رددنا مع شعراء الجنوب اللبناني أبيات « بابلونيرودا» تبريراً للعيش على ضفة الجرح شعرياً لكونهم عاشوا هذه الحالة واقعاً دامغاً:
« تسألون لماذا لا يتحدث شعري
عن الحلم، عن أوراق الشجر
عن براكين مسقط رأسي العظيمة؟
تعالوا تروا الدم في الشوارع
تعالوا تروا
الدم في الشوارع
تعالوا تروا الدم
في الشوارع ! «.

– 4 –
في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان، لم يكن بمقدور شاعرنا شوقي بزيع، أن يتحرك في فضاء منعزل عما كان يحيط به من قتل ودمار وأهوال ومجازر يومية؛ هو الذي رأى، مع غيره من المبدعين، صورة الوطن المُحتضَر والإنسان القتيل، صورة الجريمة المستمرة المُنفَّذة ضد الإنسانية وما من رقيب أو حسيب.
لقد كان من الطبيعي أن تتغيّر معادلات القصيدة، وتدخل في دوائر الدم والذهول وفوهات البنادق والمدافع. فهل يكتب الشاعر غير ما يحس ويرى؟ وهل تكون القصيدة في مثل هذه الحالة مرآة لعالم خيالي أسطوري سعيد ؟ .
لم يكن شاعرنا بعيداً عن هذا كله، كغيره من شعراء الجنوب، فهو امتداد لهذا الجنوب بأرضه وناسه وأبطاله، وهو صورة لشهدائه الأبرار الذين استشهدوا في سبيل الأرض والشرف والحرية والكرامة، وحسموا العديد من المواجهات التاريخية، هؤلاء الشهداء، هم كذلك، احتلوا مكانة خاصة ومتميزة في العديد من قصائد تلك المرحلة في منجز شاعرنا، هم الذين وجد فيهم رموزا إنسانية تُلهم على الدوام، وتمنح الثقة بأن القيم تصونها الدماء الكريمة، وأن الكرامة أغلى من أي شيء. لقد أحلهم شاعرنا محلاً عالياً جليلا في إبداعه الشعري. وقد تميزت قصائد هذا المدار لديه بالصدق المتوهج بحرارة المعاناة ونبض القلب الإنساني النبيل، دون أن تتنازل، إلى حدٍّ بعيد، عن مقوماتها الفنية .
على ضوء ما سلف، يستطيع الدارس لمنجزات شاعرنا في تلك المرحلة من تطوره الشعري، أن يلاحظ أن « ثيمة الوطن» ( الموضوع الوطني) قد تصدرت العديد من القصائد، هي قصائد القرى والمأساة والنزيف الذي تلمع ذكرياته عند كل مجزرة يرتكبها العدو ضد الجنوب، وعندما تنزل الحقول لتودع شهداء المعركة. فهناك الشهيد محاطاً بكل صور العرس الدموي، وهناك إشارات الدم الواسعة، هناك الأرض / الوطن، التي يرمز إليها بالحبيبة، غالباً، وبالأم أحيانا .
هناك صف الفلاحين الجائعين الحفاة العبيد، يقابله الطغاة الخلفاء، وبين الصفين مديح الرصاص والجراح. هناك الشاعر الذي هو تارة المخلص الرسول وتارة الشهيد: «وأشعلتُ قلبي وأرسلته باتجاه القرى»، «استعدت المدينة من قبضة العصر واحتشد القلب بالشعر». أما الوجهة التي لا يشك الشاعر أنها أكيدة فهي الانتصار، ففي ختام كل القصائد «وكل بنفسجة أحرقوها ستغدو بنفسجة المستحيلْ» أو «إن شمس المساكين لا تعرف الإنحناء».
عناصر هذه التيمة / الموضوع: ركام الصور الذي يضاء ويتأسس حول «مدركات»: الأرض ـ الوطن ـ الفقراء ـ الطغاة ـ الانتصار ـ الجنوب … . وكل من هذه المدركات تحتفظ بشحنة من الإثارة مستمدة من خارج القصيدة وتُستغل بصورة طقسية. هناك الخطابة، وهناك الإيهام الدرامي الذي لا يقتصر على تقديم عالم من الصراع الشرس «الذي يصل إلى القصيدة في نهايته»، ولكن على تمجيد مثال بطولي. والإيهام بمعركة يصطدم فيها فريقا الصراع اصطدام الخير بالشر. ثم هناك التغني بصورة الحرمان والقهر التي تثير مازوشية جماعية، والشاعر المخلص. وأخيراً وربما بعد كل مقطع مباركة الانتصار.
« توحَّدَتِ الأرضُ فينا..فكل قتيل سيصبح جيلْ
وكل بنفسجة أحرقوها.. ستغدو بنفسجةَ المستحيلْ»
شوقي بزيع رأى المدن تتلاشى في ضباب الدم وسرد للقارئ واقع الخراب، بينما أضاء القنديل من زيت القلب فكتب الأبيات السابقة . والشهيد عند شاعرنا لم يبق شعاراً يُرفع أو ملصقاً تأكله الرياح، لكنه أصبح ذلك النهر الذي يذهب إلى حقول القمح والتبغ، وصار «حسن الحايك» بداية للقرى والفقراء : «في الشمس كالأنبياء».
إن « حسن الحايك» شهيد المسافات والينابيع الذي دخل الشاعر على لحظة موته فكتب النزيف التاريخي الشعري في أرشيف « النبطية «. يقول عنه الشاعر»لم أعرف حسن الحايك على الإطلاق ولكن الصورة التي نشرتها جريدة (النهار) العام 1973 عند سقوطه وكان قد أصيب برصاصة في صدره أطلقها الضابط الذي كان يقود الشرطة اللبنانية، وملامح وجهه وهو يسقط والتي فيها كل تعب الجنوب وألمه وغضبه وترابه، كل ذلك جعلني أتساءل : أين أنا».
ومن أسئلته تلك صور شاعرنا الاستشهاد باعتباره أقصى ذروة يبلغها الفعل الإنساني المحصن بالوعي والإرادة، إنه الطرف الأخير لمسافة البذل والكفاح والذود عن قيم الإنسان وتاريخه ومستقبله. وصور الشهيد بأنه أداة التغيير على الأرض، وبأنه الأسطورة التي ستغير وجه الواقع، وترسم الحقيقة المطلقة، وهو الذي سيعيد ترتيب الأشياء والأسماء والوجوه، ويعيد الحق المسلوب، ويعيد رسم خريطة الأوطان.
من هنا كان للرثاء خصوصية متفردة في شعر شوقي بزيع، وأزعم أن هذه الخصوصية ارتبطت، بداءة، برثائه لأطفال الجنوب كما في قصيدة ( الأجراس) ورثائه للطفل «أيمن» في قصيدة ( زعموا أن صباحاً كان). إنه رثاء يحمل رؤيا مستقبلية .
أعتقد أن موضوعة الموت هي من الموضوعات التي شغلت كثيرا بال شاعرنا ووقف أمامها متسائلا ومشدوهاً، كما أني أرى أن المراثي في بعض مجموعاته الشعرية لم يكن الغرض منها مجرد التأبين الشخصي للراحل وإنما هي إطلالة من خلال ذلك التأبين على المعنى الذي يحمله الموت في داخله. (موضوعة الموت من الموضوعات المهمة التي حفل بها الشعر العربي المعاصر وخاصة عند جيلي الرواد والستينات). وربما كان الإحساس العالي بالموت عند شاعرنا ناجماً عن البيئة التي ولد فيها، حيث يصاحب الجنوبيون الموت ويألفونه منذ نعومة أظفارهم وربما منذ واقعة كربلاء.
كثرة المراثي عند الشاعر قد تعني أيضا كثرة الناس الذين افتقدهم من الأسرة أو من أصدقاء شخصيين أو شهداء ونماذج عليا من البشر الذين فقدوا حياتهم نتيجة الدفاع عن المثل العليا التي يؤمنون بها.
ونحن سنكتفي ، هنا، بالإحالة على بعض قصائده في هذا المجال، والتي هي، على سبيل المثال، ( زعموا أن صباحاً كان) التي تتحدث عن الطفل « أيمن» ( في الرابعة من عمره) من الجنوب، قُتل، بطريقة وحشية، مع من قٌتل في قرية «العزية» التي أبادها الطيران الصهيوني عن بكرة أبيها. لقد تصدى ذلك الطفل بالفراشة التي كان يلاحقها على ضفاف الأنهار «للعصافير المعادية» التي انقضت فجأة على طفولته ودفعته إلى طرح الأسئلة المبكرة عن حقيقة ما يجري وهو في طريقه إلى الموت.
لقد اتخذ منه شاعرنا موضوعا للتعبير عن قضية تشغله وتؤرقه . فالصِّبا متسع الدلالة لما يتمتع به من معاني البراءة والعفوية والرغبة البكر والتطلع للمستقبل، إلى غير ذلك من الدلالات. وأضفى عليه كل رموز الطبيعة، بل أصبح رمزاً للطبيعة والحب والجمال.بل إنه جعله في خاتمة القصيدة رب الخصوبة « تموز» ، ذو الأصل السومري، الذي صرعه خنزير وحشي أثناء رحلة صيد له، فقُتل ومن دمه تشكلت أزاهير شقائق النعمان التي كانت بيضاء، وهو حتما سيبعث ثانية ضماناً لنجاح الزراعة ووفرة المحصول، وستمثل هذه العودة بظهور زهرة شقائق النعمان .
«زعموا أن صباحاً كانْ
زعموا أن تراباً كان
ودماً طفلا سال على الصخرِ
لتشربه الوديانْ
وسيطلع ذات صباحٍ
كي يهدينا خرزاً
وشقائق نعمان ْ».
وفي رثائه للزعيم الدّرزي كمال جنبلاط من قصيدة «جبل الباروك» حيث كان الشهيد هو المدافع عن حرية الناس التي سلبت منهم، والساعي لإرجاعها بعد أن كاد قنديلها أن يُحتضر ، ويجف ما به من زيت يوقد للأجيال القادمة دروب النور والحق والحرية.
وفي قصيدة ( خلود تنجح في امتحان الموت) التي مضت شهيدة قبل بلوغها العشرين، إذ كانت، هي الأخرى، ضحية قصف الطائرات المعادية على بيتها بمن فيه، حيث صاراً أنقاضاً .
وهناك قصائد أخرى : « العائد « « أذكر نبتة الجنون فوق صدره» « الصوت «، « تغريبة»، « عرس قانا الجليل «، « عبد الأمير عبد الله يعود إلى بنت جبيل» « الغائب» « في الشمس كالأنبياء « ….

ـ 5 ـ
لقد ظلت الرغبة في الحب عند الإنسان تعادل الرغبة في الحياة ذاتها، وبقدر ما تمتلك الحياة من مشروعية يمتلك الحب أيضاً .
إن الحب حالة إبداع إنساني ساهمت في تكوينها وتطويرها الطبيعة والإنسان والصيرورة الحضارية الدائمة للنوع، وهو بهذا المعنى كشف وخلق متداخلان مع آلية عمل العناصر الأخرى للحياة بطريقة معقدة ولكن متكاملة .
إن الحب إطلالة على العالم من الزاوية التي يضع الإنسان نفسه فيها. الإنسان بكل توقه إلى الحرية، لا الحرية بمعناها السياسي أو الاجتماعي فقط وإنما الحرية بمعناها الوجودي الشامل.
يعتبر شوقي بزيع من شعرائنا المعاصرين الذين شكلت تجربة الحب لديهم محوراً رئيسياً في كل ما كتب، بدءاً من ديوانه الأول ( عناوين سريعة لوطن مقتول) .
وإذا كان جزء هام من شعره قد تحلق حول المرأة، فقد تعددت فيه صورها ووجوهها، ومرت في عدة أطوار. خاصة وأن المرأة ، هي كذلك، كائن متناقض متعدد الوجوه، متعدد المستويات في انفعالاته ومشاعره، والمفتوح على عدة احتمالات.
من هنا كان شعره حيناً نصيراً لها ومحتفياً بها وممتناً لكل ما تقدمه له، وحيناً آخر الصارخ المحتج على غموضها الهارب، والعصي على الفهم، لتعذر بل واستحالة العلاقة معها، لذا لا يليق بها الحب والإخلاص، وطرا آخر هو ديك الجن والسياف الشرقي الذي يمثل الذكورة المطلقة أما نقيضها الأنوثة المطلقة.
ونحن هنا سنقتصر على الإشارة لبعض قصائد مجموعتيه(مرثية الغبار) و(كأني غريبك بين النساء) كنماذج لملامسة هذه التيمة الرئيسية في منجزه الشعري.
أولا : يمكن الوقوف على قصائد ثلاث من مجموعته ( مرثيه الغبار) وهي:
ـ « تجليات المرأة « و 2 ـ « تفاحة الغياب « و 3» ألمسيني لكي لا أضل طريقي إلى البيت» . لأن هذه القصائد تقدم لنا ثلاث صور لرؤيته للمرأة.
ففي القصيدة الأولى يعكس تجربة بحثه عن الأنثى / الحبيبة، وهو لا يلتقي بها بل إن جميع تجاربه معها، على تنوعها، كان فيها الكثير من عدم الرضا، إنه يشعر بأنه يفتقد إلى المرأة التي يحبها مهما كثرت النساء من حوله.
أما القصيدة الثانية فقد صارت المرأة أقرب إليه لأنها أعطته الحب والدفء والحنان، ولكن دورة الحياة شاءت أن يكون الغياب بطل الموقف. تأتي القصيدة الثالثة فتظهر أن الشاعر قد عثر على ضالته، ودخل الاستقرار إلى حياته، إن المرأة هنا سكنت حياته ووجدانه وعواطفه ولغته :
كأنِّي أجرّ السنينَ إليكِ لكي تسكتي جوعها
أو كأَنَّ النساء اللواتي تعاقبن فوق سطوح دمي
لم يكنَّ سوى حشرجات
تُحصِّن هذا المهبّ الذي يدَّعيك
لئلا تصبَّ رياحي
بمجرىً سواه .
وهذه القصيدة، من وجهة نظري، تعتبر من عيون الشعر الغزلي في ديوان الشعر العربي المعاصر، فقد كان فيها صانع جواهر من الطراز الأول، إنها تعيد للحضور الشعري المتألق والجسور كثيراً من بهائه وحيويته وجماله وفتنته، وكان فيها عاشقاً بامتياز :
«المسيني ليسترجعَ العُمر ما فاتَ من جسدي المر» .
« المسيني لأرجعَ عشرين عاماً إلى الخلف».
«المسيني لكي لا أضلَّ طريقي إلى البيت».
( واتركي بين جسمي وبين الغياب
شفا قبلة
كي أؤجِّلَ موعدَ يأسي
إلى الليلة التاليهْ».
ثانيا : مجموعة «كأني غريبكِ بين النساء» تأتي مباشرة على مستوى الطبع، بعد مجموعته السالفة»مرثية الغبار»، وعنوان المجموعة يحمل مخاطبة لامرأة، مما يوحي بمضمون غزلي، أو انكسار جديد من انكسارات الشاعر أمام رحيل امرأة من حياته، والنصوص التي قرأناها ترجح المضمون الثاني، الذي يؤرخ بالفعل، لحال الانكسار العامة التي يؤرخ لها الشاعر في قصائده، ذلك أن شوقي بزيع يفلح في التعبير عن أحزانه وآلامه أكثر منه في أفراحه وأعراسه، وفي تصوير امرأة راحلة أكثر من تصوير استقبالها، كأنما كتابته تأسست على الأوجاع والخراب والهزائم وسوداوية الزمن وفجائع التجربة :
«ها أنا ألتفُّ كالحبل على عنقِ انكساراتي
وأقعي مثل برجٍ خرِبِ
فوق حطامي
كلما انهار جدارٌ في مكانٍ ما
تحسَّستُ انهدامي».
ومع المرأة، ربما تكون لحظة الوداع والانفصال أكثر اللحظات تكثيفا للانفعالات، واختصاراً لزمن من الحب المتراكم يوماً بعد يوم. هذه اللحظة لن تكونها لحظة الاصطدام الأول بالمرأة ، ولا لحظات الافتتان بها. والشعر يتربص خلف اللحظات الأقوى والأكثر قدرة على تزخيم الانفعالات.
في قصيدته (لم يلدني شجر قط)، كمثال، استكمال لتكثيف حال الانكسار العامة، التي كان قد بدأ تجسيدها في قصيدته، التي حملت عنوان المجموعة السابقة «مرثية الغبار»، فمنذ البداية تطالعنا ملامح اليأس :
* « مُطفأٌ صدري ** وأدنى رُسُلي اليأس
وأعلى خضرةً منِّي ذبولي «.
وهو يذهب، في هذه الحال، إلى حدود الشعور بشيخوخة الأرض والعمر والأشياء : «لكأنَّ الأرضَ شاخت من قرونٍ»، «وأنا النهر الذي يدفعُه المجرى/لكي يبلغ بحراً ميِّت الموجِ»، أو يذهب إلى صور جنائزية وأحلام موت كابوسية، فيصرخ : «أيها الموتُ الذي يَفغرُ في وهدة روحيَ فاهُ» … .
* « عائداً نحو ثرى حمصٍ **على رأس جيوشٍ من كوابيسي
وهذا القفرُ مرآةٌ ..ينزُّ الشبق الفاحم من أظلافها « .
الكابوسية وليدة الخسائر الكبيرة، وكذلك الجنون الذي يلي اصطدام الشاعر بواقع في ذروة تحولاته وانهدامه وخسوفه ، أو الجنون الذي يعقب غياب امرأة ، فيحوله من دونها إلى شرير وجن ومشبوه وخائن:
« لا امرأةٌ … كلُّ أنثى امرأتي
وأنا في كلِّ أرض ناشبٌ كالفطرِ
أو كالجنِّ** أو كالسمِّ
في كل زمان **أنا ديكُ الشبهاتِ
المتخفِّي في الشرايين ،
أنا الثالث في كل سريرٍ
وفي كل عناق بين زوجين
أنا الطعنة **في الظهر .. «
هذا هو شعور «الملك الخاسر» بعد كل حب، وشعور «ديك الجن» بعد كل «ورد» أو في كل ليلة أخيرة تتحول «ورد» فيها إلى « قطعة من ندم أسود» ـ ويصبح الشاعر «القاتل والمقتول « نفسه « والطعنةُ/الدِّيكُ الشهيدُ». وهذا هو الشاعر لا يلفته في العشق «إلا ما يلي القبلة من شوك» ولا يظهر له من جسد المرأة «إلا نصفه الخائن».

ـ 6 ـ
« لذا لن يُتمَّ القصيدَة عني ، إذا متُّ،
غير الشجرْ».
إنها تجربة جديدة في الشعر العربي المعاصر، بسبب تفرغ شاعرنا بالكامل لموضوع واحد هو الأشجار، التي عرفها عن كثب، في جنوب لبنان، وأصغى إليهاوتعلق بها، وتربى في كنفها زمن الطفولة، والتي طالما نادته لكي يعود إليها مرة ثانية ليسترجع صدى تلك الكائنات الحية التي هي أجمل ما سقط من فردوس. من هنا أفرد لها ديواناً دلالة على مكانتها لديه، على الرغبة في استنطاقها، والكتابة عنها بعيداً عن أي فكرة أخرى.
«صراخ الأشجار» نحن أمام ديوان وليس مجموعة شعرية. وقد بدا الشاعر في تآلف لغة القصائد في هذا الديوان كأنه كتبه مرة واحدة رغم تضمنه ثماني عشرة قصيدة تختص كل واحدة منها بنوع من الشجر تقريباً مع التعريج في بعضها على أكثر من شجرة أو نبتة. يُستثنى من ذلك قصيدتا «طريق الحنِّية») و»جبال البطم» اللتان تتحدثان عن قريتين جنوبيتين استمدتا اسميهما من نوع من الشجر، وكذلك قصيدتا (أشجار لغياب « تاء») و (صوت فوق بحيرة الذكرى) اللتان تتحول فيهما المرأة والرجل إلى أشجار أيضاً.
أشجار الديوان مستمدة من الذاكرة القصية للشاعر حيث قريته الجنوبية ذات الطبيعة الريفية. بهذا المعنى لا تعدو الأشجار مجرد كونها كائنات منفصلة بذاتها. إنها امتداد للحياة التي كانت لكاتبها جزء حقيقي من تكوين شخصية الشاعر ومن مسرح عيشه معا. هكذا تغدو هذه الأشجار معادلاً للطفولة والذكرى والمرأة، إنها المكان أيضاً.
« ذلك أنني منذ البدايةِ
لم أُصخْ يوماً
لغير تنفُّس الأوراق في صدري
وللنعناع وهو يعومُ كالسفن الصغيرة
فوق سطح طفولتي النائي « .
وعن السِّنديان الذي هو :
«هو أكثر الأشجار تعويلا **على ما فات ،
عكَّازُ الطفولة **والثغاء الأوَّليُّ لماعز الماضي»
وعليه، لا تعود الأشجار في الديوان مادة حيادية وإنما عالما كاملا يحيل دائماً على حياة ماضية. الأشجار بوصفها ماضياً تتحول لدى الشاعر إلى مرثيات. إنها شواهد على الزمن المنقضي وعلى الحياة التي لم تعد موجودة إلا في البال. من هذا الباب، باب الرثاء الذي برع فيه الشاعر في مديح الخسارات والفقدان والهجر.
ربما كان شوقي بزيع في اتخاذه الأشجار موضوعاً للكتابة الشعرية قد انحاز للمتروك والهامشي من الحياة؛ وهو بهذا كذلك أضاف إلى كتابات الطبيعة زهرة وإلى قصائده شجرة.

ـ 7 ـ
في نهاية هذه الشهادة سأكتفي بالإلماح الموجز لبعض الملامح الفنية لتجربة شاعرنا البالغة الثراء والتنوع، والتي سأجملها في النقاط الآتية:
* الغنائية الوجدانية الثرية العذبة التي عرفناها في نماذجه المبكرة. * الغنائية الدرامية حيث تتعدد الأصوات ويبرز الحوار، ويتحقق تسريد الشعر (السياق الحكائي ـ بناؤه على السرد)، والطابع السيري، والتذكر والصراع والارتداد والمنولوج وغيرها من العناصر التي وظفت في العديد من نصوصه الشعرية* التواصل الخصب مع التراث القديم والحديث: التراث الشعري والديني والأسطوري والفولكلوري ، كأن هناك حركة بندولية جدلية مع التراث، ذهاب إلى التراث وعودة منه أو مجيء التراث إلى لحظتنا الراهنة وفي الحالتين يغدو غير ما كان.(تضمينات نصية ـ استدعاء شخصيات ـ أحداث ـ أمكنة ـ مقاطع فولكلورية وغيرها ).
وقد تعددت تقنيات وآليات توظيفه لهذا التراث.
* الإيقاع : أحد المفاتيح التي بواسطتها يستطيع المتلقي أن يتسرب إلى جوانية قصيدة / قصائد شاعرنا .
أقول بوضوح ساطع: لا شعر خارج الموسيقى، وشاعرنا أحد الصناع المهرة في هذا المجال، هو الذي يروض الموسيقى ويضفرها ويصنع منها العديد من التشكيلات الإيقاعية . فإضافة إلى إيقاعيته العروضية (التفعيلية) وأنماطه القافوية فقد حقق لنصوصه الشعرية (وَقْعها) بوسائل لغوية صوتية من خلال عدة مستويات منها :
ـ الإيقاع البديعي: (الذي يتكئ على بُنى بعينها لها حدتها الصوتية مثلك الجناس والترصيع والتكرار بمستوياته وأشكاله المختلفة).
ـ الإيقاع الحرفي: (وهو مستوى يوظف الحروف فرادى وجماعات لتوليد صوتية عالية النبرة).
إن متون شاعرنا تذكرني، في هذا المجال، بأمير التفعيلة محمود درويش وقبله بالسياب العظيم.
* إقامة مصالحة بين الجمال اللغوي (ألفاظ منتقاة بدقة ورهافة حس موسيقي بارع) والمعرفة (تذويب للمعرفة في مناخ رمزي تأويلي).


الكاتب : د. حسن الغُرفي

  

بتاريخ : 02/12/2022