شيء من القلب

ضوء أبيض، بارد، يتسلل ليغمر العالم، في يوم غابت فيه الشمس، لأن الظلال تمردت ورفضت العودة إلى أصحابها.
هناك، في عالم الظلال، حيث لا أسماء، لا حدود، ولا ملامح محددة، وُجدت الأرواح تسير بلا أجساد، والأجساد تنام بلا أحلام. في هذا العالم، المشاعر تولد للظلال فقط، هي وحدها تبكي، تضحك، تخاف من الحب، وتموت من الشغف.
هنا، في هذا العالم، وجدت نصف ظلي، حيث الظلال لا تتبع أجسادها، بل تمشي حرة في بحث عن صدى ظل آخر يكمّل ترددها.
لم نكن وحدنا، ظلال كثيرة، في هذا العالم، اللقاءات ممنوعة لا تُهمس، بل تُراقب. قانون واحد يؤطرنا جميعا، قانون لم يُكتب، لكنه يسكن العيون الخافتة للظلال التي مرت قبلنا ويُسمع بتردد قوي «إذا اقترب ظلان حد التماس، ارتجف الضوء، واهتز النظام».
الحراس هنا، لا يشبهون أحدا، لا ملامح لهم ولا ظلال. كائنات غير مرئية، تَظهر حين يقترب الشوق من التجسّد، والحب من التكوّن، فيُبطئون الزمن حتى ينسى الظلان سبب اللقاء، ويضيعان في زحمة الظلام، حيث العتمة تُعيد ترتيب الشوق على طريقتها: تفرقه إلى ذرات، تذروه في الفراغ، ثم تنفثه في زفير الريح كي لا يتذكر أحد كيف كان شكل الاقتراب.
في اللحظة التي وجدته فيها، بدأ الضوء يتغير، تغير لونه، ولم يعد باردا، صار يتنفس، يتحرك، يتألم، ويحاول جاهدا النجاة من الحراس. جميعنا هنا يعلم بخطر الاقتراب، لكن القلائل فقط يغامرون ويجدون أنصاف ظلالهم في لحظات سهو من الضوء، أو في صدفة لم يصادفها الحراس بعد.
هكذا، أصبحنا نبحث عن فرصة للقاء، سقوط مشترك في أرض لا تصنّف، خارج رقابة الضوء، حيث لا قوانين ولا حراس، حيث الحنين يقودنا، عبر ذبذبات قديمة، غابرة، لم تسجّل ولم تلغَ. لكن في اللحظة التي التفّت فيها الظلال حولنا، حدث ما لم تتوقعه قوانين هذا العالم. اهتزّ الضوء فجأة، مرة واحدة، ثم انطفأ. لحظة عمى قصيرة، كأن العالم نفسه أغلق عينيه وترك لنا لحظة عبور جديدة…
حين عاد النور، كل شيء تغير. لم يكن هو بجانبي، ولا كنت في مكاني. الأرض التي تحت قدمي لم تكن ملساء كعادتها، بل مكسورة، مشققة، كأن شرخًا قد حدث بين عالمين. سمعت صوتًا لم أسمعه من قبل، يشبه صوتي لكنه أقدم وأعمق، كأنه ظلّي حين كان ينام في رحم الكون. قال لي: «لقد اخترقتِ التردد».
شيء جديد كان يولد داخلي، أو يخرج مني… لم يكن خوفا، ولا شوقا، بل ثقلا ناعما، كأن نسيجا غير مرئي بدأ ينسج خيوطه بين عظامي خيطا خيطا. تحول مفاجئ أشعر به أول مرة… أطراف… عمق… حرارة. شكل يشبه الجسد، لكنه ناقص… كأنه هيكل من نبضات الضوء المكثفة التي لم تجد شكلها بعد.
بدأت أحس بثقل في صدري، شيء يشبه القلب لكنه ليس كذلك. لم يكن ينبض بإيقاع مألوف، بل كان يصدر ذبذبات تتباعد ثم تتقارب، كأنها تُجسّ نبض عالمين في آنٍ واحد. نظرت حولي، كل شيء تغيّر. كنت في مكان لم أصله من قبل. لا يشبه أي نقطة في عالم الظلال، ولا في عالم الأجساد. مكان ثالث، ينمو داخلي كما ينمو الحنين في أغنية منسية. لم تعد همسات الظلال، بل دوي خافت يأتي من داخل الأرض الجديدة، من الشرخ الذي لم يلتئم بعد. شيء ما يُولد في الأعماق، وأنا جزء منه. لم أكن أعرف إن كنت أرتفع أم أغوص، لكنني شعرتُ بشيء يشبه الاكتمال… لحظة صمت نقي، توقّف فيها كل شيء: الضوء، الزمن، الخوف، حتى الظلال.
ثم رأيتُه، ليس كظل، ولا كجسد، بل كوميض مألوف يعبر التردد نحوي، بلا خوف. لم يكن يحاول لمس يدي، بل يتردد قربها، كأن الهواء نفسه لم يعد يفصل بيننا، بل يجمعنا.
قال لي، أو ربما حلمتُ به يقول:
«الاقتراب لم يكن خطأ… بل كان العبور».
في تلك اللحظة، لم أعد أشعر بالبرد. الضوء لم يعد عدوا، ولا الحراس، ولا الشرخ.
كنتُ أنا، بكل ما فيّ من نقص، نصف جسد، نصف ظل، لكني أخيرًا أمتلكُ النبض.
تبعثر الضوء من حولي، وبدأت الأرض تهتز تحتي. لا شيء كان ثابتًا، ولا حتى الزمن. كان الصوت الذي يملأ المكان يشبه أغنيتي، أو ربما كان هو نفسه. همسات تطوف بيننا، وتدور حولنا مثل الرياح.
«لن نعود للأماكن القديمة بعد الآن»، قال لي وهو يبتعد ببطء .
سار في الاتجاه المعاكس، في الوقت الذي بدأ فيه الضوء يتناثر حولنا كأسرار قديمة تنبض بالحياة، كأنه يعكس ضوءًا جديدًا في عالم مظلم. ومهما كان ما سيحدث، سأظل هناك، في قلب الشرخ، أنتظر ما قد يأتي، ربما في الظل، أو ربما في النور.


الكاتب : فاطمة كطار

  

بتاريخ : 16/05/2025