شيشاوة: من تاريخ المجال إلى مجال التاريخ

 

شيشاوة اسم لمجال طبيعي، قد يكون جبلا، ويحتمل أن يكون واديا. الثابت، أنه مجال جغرافي يجمع البسائط والجبال وما بينهما…مع الوقت، أطلق الإسم على النزالة السلطانية التي تربط بين الطريق التجاري من مراكش إلى موكادور، ومنه إلى سوس والجنوب والصحراء.
تاريخيا، اقترن الاسم في المصادر بلحظة زيارة الحسن الوزان عام ( 919ه/1514م). حول ذلك، نصادف أول إشارة تقول: «…يأتي جبل شيشاوة بعد جبل ساميد، وينبع منه نهر يحمل اسم شيشاوة…».
واضح أن وادي شيشاوة لم يحمل هذا الاسم إلا في مجراه الأدنى. مع الوزان دائما، يمكن أن نقترب أكثر من طبائع أهل شيشاوة بصرف النظر عن مقصدية التأليف، أناس متوحشون ومحاربون، يعيشون على أكل الشعير والعسل ولحم الماعز، يخالطون اليهود المزاولين لمهنة الحدادة، ويصنعون المجارف والمناجل وصفائح الخيل. هنا في هذا المجال، امتزج العنصر الأمازيغي مع العنصر العربي، وتمازجت لغة تاشلحيت، أهل كدميوة وسكساوة ومزوضة…مع عربية أولاد أبي السباع، هنا أيضا، تكامل إنتاج الرعي مع الزراعة في دورة اقتصادية أمَّنت البقاء في وجه أعتى الجوائح والأوبئة التي مرت على تاريخ منطقة شيشاوة، وحافظت بالتالي على الكيان البيوكيميائي للشيشاويين.
بهذا، يكون مجال شيشاوة قد بصم على وقائع وحوادث كبرى في تاريخ المغرب، وأضفى حركية اجتماعية على النسيج القبلي لمنطقة الأطلس الكبير الغربي، قبائل هاجرت، وأخرى استوطنت، وثالثة هُجرت…وبين الماضي والحاضر، يقترن اسم شيشاوة في البحث العلمي بما استجد في البحث الأركيولوجي في جبل إيغود، وحده هذا الاكتشاف يضفي على المجال عمقا تاريخيا لا سبيل للتشكيك فيه…جعل المنطقة تأخذ صيتا دوليا. نترك هذه التميز، ونعبر نحو تفاصيل نهاية القرن السادس عشر، هنا شيشاوة أو شوشاوة على الأصح ستذكر في مظان التاريخ ومتونه، من خلال معاصر السكر التي أنشأها السلطان السعدي أحمد المنصور. في سبيل ذلك ننصت إلى مؤرخ ذلك العصر، عبد العزيز الفشتالي في «مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفاء «…ومن أعظم آثاره (المنصور الذهبي) المعاصر السكرية التي ابتدع رسومها واخترعها ببلاد حاحة وشوشاوة…وهي من الأمور التي انفرد أيده الله بتدبيرها فجاء للناس منها بآية مما تختص به تربة بلاد سوس…فكان كل من تولى الخلافة من ذريته يقطع بأن ذلك لا يتأتى من جهة الإمكان في أرض غير السوس…».
أشارت المخطوطات التاريخية بشأن تخطيط مصانع السكر في شيشاوة إلى استفادة هذه المصانع من قربها من رباط شاكر من الناحية الأمنية والروحية، ومن زاوية أبو العباس أحمد بن الأحول الذي نجد لها صدى في حوليات التعارجي المعروفة بالإعلام. وفي سياق ذلك، أشار المختار السوسي والباحث في تاريخ بلاد أحمر المصطفى حمزة إلى ارتباط العلويين مع شرفاء الزاوية البوسنية، الزاوية التي تنسب من حيث البناء إلى خناتة بنت بكار بعد وفاة الشيخ سيدي محمد بوسنة أحد أشهر طلاب محمد بن ناصر الدرعي مؤسس الزاوية الناصرية بتامكروت.
في كنف هذه الزاوية – الزاوية البوسنية- تربى أمراء العلويين وشبَّ أبناء الأعيان. من خلال هذه الوشيجة، نفهم الحضور الدائم لقبائل المجال الشيشاوي في تركيبة الجيش المغربي في الحرْكات السلطانية، وخاصة تلك التي استهدفت أبو العباس الشرادي في حوز مراكش زمن السلطان عبد الرحمان بن هشام.
من يقرأ هذا الحدث العظيم، يتأسف على الخراب الذي أصاب هذا الورش، في تاريخ المغرب، لم تكن نظيمة الدولة ترتبط بالمؤسسات بشكل يؤمن الانتقال السلس للسلطة من سلطان لآخر، بقدر ما كانت نظيمة مرتبطة بأشخاص، بوفاة السلطان أحمد المنصور ارتدت معاصر السكر إلى خراب، وكأنها قصر من ورق، والواقع، الحديث عن معاصر السكر الشيشاوية لا يجب أن يحجب حقيقة الثورة والتمرد والنفور التي قامت بها القبائل والزوايا في الأطلس الكبير الغربي، فقد ثار مرابطان من جبال الأطلس سنة 991ه/ 1583م احتجاجا على العقود التي أبرمها السلطان مع النصارى، رفضا للاستحواذ على الأراضي لغرس قصب السكر. الحصيلة، وقع سكان الجبال في الفقر، وانقطعت سبل العيش عنهم، وهاجموا أكثر من مرة على معاصر السكر ودمروها ونهبوها، فأعمل المنصور السيف فيهم فبددوا تبديدا، وسلخ المرابطان حيين وحشي جلداهما تبنا لينقلا إلى مراكش مثلما يفيدنا الإفراني حول ذلك.
يقول الافراني في مقصد تأليف نزهة الحادي بشأن ذلك «…كان المنصور على ما هو عليه من ضخامة الملك وسعة الخراج، يوظف على الرعية أموالا طائلة يلزمهم بأدائها، وزاد الأمر على ما كان عليه الحال في عهد أبيه، حسب ما سلف ذلك مستوفى في ترجمة أبيه، وكانت الرعية تشتكي منه بذلك، ونالها إجحاف منه ومن عماله، وكان غير متوقف في الدماء، ولا هياب للوقيعة في ذلك، وتتبع ما وقع في ذلك يناقض غرضنا في هذا الكتاب، من الإغضاء عن العورات والستر على الفضائح، وقد ألمعنا لك بما يكون دالا على ما وراءه…». منطوق النص يربط بين صناعة السكر وبين دمار القبائل في الأطلس الكبير الغربي.
حمل الربع الأول من القرن السادس عشر معالم تحول في تاريخ مجال شيشاوة: صراعات قبلية، أوبئة ومجاعات، تخريب برتغالي لمعالم المجال…كل ذلك سيسهم في ظهور تجمعات بشرية جديدة وقوى قبلية صاعدة…قبيلة ادويران في السفح بين نفيفة ومزوضة على واد سكساوة، قبيلة متوكة بين نفيفة وحاحا، واكتساح أولاد بن السبع للسهل الشيشاوي. خلال هذه اللحظة وصلت شخصية ستساهم في نشر العلم والتصوف يتعلق الأمر أحمد بن علي أبي النحل (بوتيزوا) المتوفى سنة 1155ه/ 1742م، وهو جد أسرة جعفر بن محمد بن عبد الله. ينتسب مؤسس الزاوية إلى عبد القادر الجيلاني، وكان من أصحاب أحمد بن الناصر الدرعي.
اقترن مجال شيشاوة من حيث الإشعاع الروحي والديني بهذه الزاوية في مزوضة أو صودة كما كانت تكتب في المصادر الوسيطية عند البيدق وابن الزيات. والحال، تعتبر هذه الزاوية الأصل لبقية الزوايا والمدارس العتيقة المنتشرة في القبائل والمجاورة لمزوضة (كدميوة- سكساوة- أولاد أبي السباع) وحتى البعيدة عنها (حاحا- السراغنة- الرحامنة- الشياضمة- مسفيوة- إدامحمود…).
في الواقع، يعود تاريخ تأسيس الزاوية إلى حوالي سنة 1242ه الموافق 1830م من طرف سيدي أحمد بن محمد الأكنضيفي. وتخرج من هذه الزاوية علماء وشيوخ أفرد لهم المختار السوسي تراجما في كتابه «المعسول» في جزئه السابع عشر.
مع الحماية، وقفت النصوص الفرنسية عند مجال شيشاوة بالقول: هضبة شديدة البرودة في فصل الشتاء، قبالة الواجهة الأمامية للأطلس، ومن فوق الجبل تطل قرى صغيرة مبنية بالطين تنتشر بين منازلها الخزانات المائية المسماة ب «نطافي» لمواجهة شح مياه الأودية. من مزوضية إلى شيشاوة ست مراحل بقياس الرائد كورني الذي رافق رحلة مانجان لوقف زحف أحمد الهيبة، وعبر هذا المقطع المجالي تغطي أشجار السدر، وأراضي غير مستغلة، وعزبان شاسعة منتشرة ممتدة بين مراكش وواد شيشاوة. وإذا ما أردنا أن نفهم حقيقة الوضع، يمكن أن نربطه بالتطاحنات التي جرت بين قواد المنطقة في هذه الفترة. مع الاستعمار، سيعمد المعمر الفرنسي إلى استغلال هذه الأراضي من خلال زراعة الشعير والقمح، والبطاطس وبعض أشجار العنب والزيتون.
واد شيشاوة يجري فوق سرير عريض، فوق هضبة صلصالية، عبر جبل تيلضي (تيلدات) تغطيه أشجار الزيتون الخضراء المحاطة بأسوار شوكية. مساحات شاسعة، سهل أجرد، مستو وقاحل…مشهد شاسع من أراضي محجرة، وغير مستغلة فلاحيا، يسكنها رعاة يمتهنون الانتجاع. رغم ذلك، تشوفت كل القوى السياسية نحو السيطرة على نقاط الماء الموجودة فيه. من يصل إلى ذلك، يفرض إتاوته على القوافل العابرة من مراكش إلى موكادور أو سوس في الطريق نحو سوس ويفرض سلطته على المجال.
قبل اجتياز ممر تيزي ن ماشو، ينتصب وادي امنتانوت الذي يُعول عليم السكان لري بساتينهم الملأى بأشجار الزيتون. بالوصول إلى هنا تنتصب قصبة القاهرة «القيهرة» بالتعبير المحلي، إحدى الفخدات الأمازيغية التي تأوي تجمعا سكانيا مهما.


الكاتب : مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 30/06/2022