شيوعية الشعر

قال الشاعر العظيم الرفيق محمود درويش للشعراء : «يا أيها الشعراء لا تتكاثروا» ! وفي حوار معه حبذ تراجع الإقبال على الشعر إذا كان لفائدة التقدم العلمي!
ليس الشعر «ديوان العرب» ولا الرواية ديوان العربية الجديد، لأن لسان العرب الجميل والطويل لم يكن له علم غير الشعر على حد قول أحد اللغويين. والرواية لا تضاهي وتباهي الشعر إلا بإقبال النقد الأكاديمي عليها، لأنها مطية ذلول، له وإلى الجوائز!
في أعظم البلدان احتفال بالشاعر واحتفاء بالديوان الإنساني أكثر مما في «بلاد العُرْب أوطاني»!
وقد ذكرت في أكثر من مقام ومقال أن الشعر لم يتراجع الإقبال عليه ولا على أي نوع من أجناس الإبداع الإنساني، لأن «لكل زرع كياله» ورحبته غصت بأكياس وأكداس الحبوب.
يُعابُ بعضُ الأصدقاء _ وأنا بينهم_ على تزكية «غير الشعراء» وإجازتهم بارتكاب الشعر الباطل، المعاب حتى على أبي تمام!
و «لم لا يكون وإن ذاك لكائنٌ» على حد قول الطائي جعفر بن عفان. وفي البدء كان الشعر كالحب الأول والمنزل الأول الأليف الحبيب لجميع كتاب رسائل الهوى والغرام، ولا ضير من الحنين إليه باستمرار الحياة.
الشعر بيت مضياف كريم أليف في دهشته ومدهش في ألفته ونظيف شريف عفيف يدا وقلبا ولسانا، وليس بغريب عن أي حبيب، ولا يكتبه إلا من يحبه ويهواه من حمقى المحبين ومجانين العاشقين وصرعى الغواني الحسان موحِّدين كانوا أم معدِّدين أو متَّخِذِين ومتَّخِذاتٍ أخدانا!
وفي جميع ربوع العالم والشعوب كان الشعر أول النطق والخلق والغناء، على مر العصور وتوالي الليالي ومدى الآلام والأيام، وفي كل البراري، والبحار، والصحاري، والمواسم والفصول، والمآتم والأعراس، والكهوف والمغارات، والغارات والساحات، كان حُداء إبل، وهدهدة طفل، وسجع كهان ورهبان وعرافات، ورقى وتعويذات، ومواويل وتراتيل وترنيمات، وعلى وقع الخطى وأيادي البذار وشفاه المناجل والسنابل والقطاف وإيقاعات العمل والحيوات، وما إلى ذلك من رعويات ونوتيات وزجليات وغزليات. واقلب الصفحة في أسفار الدهور والأقدار، وحتى في أفيشات الإشهار، وشتى ألوان الإعلان والإعلام وفي كل المجالس والمواقف والمخاطبات والمناسبات!
كان الشعر أغاني الحياة وأناشيد الصبا والشباب وطائر الفردوس والوجدان. وفي «دولة الشعر» تكلمت بلسانه جميع المعارف والفلسفات والعلوم والفنون.
وقد ينفى من مدنه بعض الشعراء، ولكن المواطنية الشثرية proême جنسية دائمة لأهليها ومزدوجة للقاطنين الأقارب والأجانب الراغبين فيها.
وغني عن البيان أن الشعر كان لسان الآلهة والبشر والطير وفي أسفار أساطير الأولين ودساتير الآخرين، وما برح عودة جديدة إلى ديوان الإنسان الأول والتالي وإلى أصل كل انواع الإبداع الإلهي والطبيعي والإنساني.
وهو الآن أمس وغدا شعر العود الأبدي الجديد والسعيد إلى ذلك « الغد السائد اليوم على الأرض» بتعبير الشاعر الفرنسي، وذلك منذ أن ولدت وسادت ثم بادت ثم عادت «شيوعية الشعر»_ في مراحلها الأولى، والدنيا، في دنيا الحياة وحياة الدنيا الحقيرة، المومس الأجيرة العمياء، على عهد « الحسد الطبقي»:
الْحَيَاةُ ابْنَةُ الْكَلْبَةْ!
تَلِدُ الْأَبْرَارَ_
فَتَأْكُلُهُمْ !
وَالْأَشْرَارَ_
فَتَكْلَؤُهُمْ !
الْحَيَاةُ ابْنَةُ الْكحْبَةْ!
وهي كذلك حتى قيام نظام « شيوعية الشعر» في طورها الأعلى، في دنيا الحياة العليا، وعليا الحياة السعيدة الأخيرة : حيث لا دولة ولا جند ولا جندرمية les gens d armes ولا مِلك يمين ويسار وليس هناك سوى «شيوعية الشعر» و «دولة الناس» و الأعراس، ومصداقا لمقولة ماركس: «هنا الوردة فلنرقص هنا» وإحقاقا «لماضي الأيام الآتية» وفقا لأحلام الحاج أنسي و «الغد السائد اليوم على الأرض» طبقا لآمال الشاعر الفرنسي و «هنا طاح الريال هنا نركزو عليه» معا وطرا وجميعا وعلى حد تصديتي ومكائي وتصفيقي وتصفيري بلا تواضع ولا فخر :
حَقّاً :
لَوَ انَّ مشَاعَةً عَادَتْ
لَشَاعَ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاااسْ!
وَأَصْبَحَتِ الطَّبِيعَةُ
كُلُّهَا أَعْرَاااسْ!


الكاتب : إدريس الملياني

  

بتاريخ : 28/04/2023