صادق جلال العظم: الحديث المتعالي عن القيم مؤشر على أنها في طريقها إلى الزوال

يعد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم من أبرز المثقفين العرب. فقبل أكثر من 50 عاماً، وتحديداً عام 1969، كتب العظم كتابه «نقد الفكر الديني»، وأثار زوبعة قي المنطقة العربية. كما حوكم العظم وبُرئ؛ ولولا الصدفة، لكان مصيره كما مصائر المفكرين الأحرار الذين ضربوا جذور الفكر الغيبي كحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، ممن طالتهم يد الغيبيين
وفقهاء الظلام.

 

– في مقالتك عن العولمة، والتي ألقيتها محاضرة في قسم الفلسفة في أواخر التسعينات و توسّعت فيها لاحقاً في كتاب «ما العولمة” الذي صدر بالاشتراك مع المفكر المصري حسن حنفي، كنتَ ترى أن العولمة ستقوم بتوحيد الهويّات وستقضي على الاختلافات والفوارق. ولكن ألا ترى معي أن العولمة تعملُ بدلاً من ذلك على تجذير الهويات القومية والدينية والطائفية إلخ؟ ألم تؤدي سيرورة العولمة المتسارعة في البلدان العربية مثلاً الى التشبث بالتقاليد الخاصة والارتداد إلى الهويات الأضيق فالأضيق نتيجة ما أسماه هابرماس”الخوف من اقتلاع الجذور»؟
-عندما كان هابرماس يتحدث عن اقتلاع الجذور، كان يتكلم عن ذلك في إطار الحداثة أو الربط بين العولمة والحداثة. إن الرأسمالية هي، في الواقع، من يقتلع الجذور وهي التي تلغي طبقات اجتماعية، وتخلق طبقات جديدة وتعيد التوزيع السكاني وتغير في بنية المجتمعات وتوازنات المدينة والريف، الصناعة والزراعة، وهذا بسبب صيرورة الرأسمالية التاريخية. لقد قدّمتُ العولمة بوصفها طوراً من أطوار حِراك الرأسمالية التاريخية بحيث لم يبقَ على سطح الكرة الأرضية إلا بعض الجيوب هنا وهناك لم تتأثر بعد في العمق بصيرورة الرأسمالية. أنظرُ شخصياً إلى الحداثة، كتوصيفٍ عام، على أنها البنية الفوقية المتطوِّرة للرأسمالية التاريخية، لكن من يقتلع الجذور هو في الحقيقة التطوّر الرأسمالي الذي ينتج ردود فعل تتمثّل في التشبُّث بالجذور. ولكن بأي شيءٍ يتم التشبُّث حقاً؟ يتم التشبُّث بالعوامل الفوقيّة مثل القيم والعادات والتقاليد، أي الفولكلور. أرى أنه عندما يكثر الحديث عن القيم والتقاليد، ويتعالى التغني بها، فهذا مؤشر على أنها في طريقها إلى الزوال، إذ عندما نحياها حقاً لا داعي للتشبُّث بها والدفاع عنها أو الإفراط في التغني بها. التشبُّث هنا يعني أن الرأسمالية تهددها و تجرفها بطريقها. أنا لم أقل أن العولمة ستوحّد الهويات بأي معنى بالمطلق. كانت نظرتي تاريخية إلى هذه المسائل. فأنا اعتقد أن الهويات تتشكّل تاريخياً وتنحلّ تاريخياً أيضاً ولا أعتقد بوجود هويات ثابتة كلياً كالماهيّات أو الجواهر الثابتة أبداً. لا بد أن تؤثر العولمة بوصفها طوراً جديداً من أطوار الرأسمالية التاريخية على الهويات، وأعتقد أنها ستقوّي جوانب منها وتجرف جوانب أخرى وتصنع هويات جديدة معولمة أو ذات طابع عولمي- أممي- كوسموبوليتي. على سبيل المثال سينشأ أدب عولمي وفن عولمي يسد الحاجات الثقافية والروحية للنخب الجديدة هذه صاحبة الهوية العولمية الجديدة أيضاً. كانت النقطة الأخرى التي ركّزتُ عليها تتمثل في معالجة الرأي القائل بأن العولمة ستُضعف أو تزيل الدولة، وقد أخذتُ موقفاً نقدياً من هذا الرأي وقتها وما زلت. لقد كانت وجهة نظري تؤكد واقعة وجود دول قويّة تقف وراء العولمة وتدفع بها وتوسِّعها ولها مصالح فيها، ومن يصطدم بهذه الدول يتعلّم أنها لم تَضعُف. ونحن نرى الآن مع الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة كيف تتدخل الدول بقوة و حزم من أجل تجاوز الأزمة وإنقاذ النظام المالي العالمي القائم. الأزمة المالية الحالية هي أزمة في داخل العولمة الرأسمالية (أي واحدة من أزماتها المتعددة والكثيرة) وليست أزمة العولمة الرأسمالية ككل وبحدّ ذاتها كنظام سائد اليوم في كل مكان تقريباً. لهذا السبب تمكّنت الدول، وبخاصة العظمى منها، من التدخل بنجاح إعداداً لتجاوزها بعد الحد من تفاقمها.

– ولكن أليس من الصحيح كذلك أن ترافق العولمة مع ثورة الاتصالات والمعلومات قد حوّل العالم إلى قرية صغيرة مما أدى إلى اقتحام للأنا وللهويات التي لم تتعرف على صيرورة الحداثة، فشعرتْ مع تسارع وتيرة وإيقاع التغير أنها ستُجرف بعيداً في التيار لو قُطعت جذورها مما دفعها للتشبُّث بهوياتها بشكل أكبر. وفقاً لهذا التصور يمكن لنا أن نفسّر الأصولية بوصفها رد فعل على العولمة.
– عندما كانت الحرب الباردة مستعرة ومسيطرة، كانت كل مشاكل العالم الهامة خاضعة للمنطق الاستراتيجي المتعالي لتلك الحرب. أي أن جميع الصراعات الأدنى، من قومية إلى إثنية إلى قَبَلية إلى عشائرية الى إقليمية تحررية… الخ، كانت مضبوطة ضمن المنطق الأكبر المتعالي للحرب الباردة بحيث كان الطرفان الكبيران يتدخلان في ضبط أية مشكلة عملية كان يمكن أن تُهدّد التوازن الدولي وبحيث لا تؤثر على منطق التوازن ذاك. مع انتهاء الحرب الباردة شعرت العناصر الصغيرة بأن لديها هامش أكبر لتلعب وتتحرك وتؤكد نفسها. وأنا أعتبر أن العولمة فلتت من عقالها مع سقوط الاتحاد السوفييتي رغم أنها كانت موجودة قبل هذا السقوط. أنت تعلم أن الظاهرة عندما تبدأ قد لا نلحظ وجودها، ولكننا ننتبه لها عندما تختمر وتنضج وتتطور، حينها نبدأ البحث عن بداياتها الأولى. اندفعت العولمة بكل قواها وأصبحت ظاهرة لا يخطئ ملاحظتها أحد بعد تلاشي ذلك المنطق الاستراتيجي الذي حكم الحرب الباردة فسمح للقوى الموجودة على هامشه التصرف بحرية أكبر.
بهذا المعنى العام جداً يمكن أن نرى في الأصوليات الدينية الراهنة رد فعل على العولمة بعد انتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب. بعد ذلك أخذت العولمة الرأسمالية تقفز من مكان إلى آخر على سطح الكرة الأرضية وبسرعة هائلة دون الاهتمام كثيراً بالثقافة المحلية، أو بالخصائص القومية الموضعية أو بالطبائع الإثنية المختلفة إلى أخره، إلا بما يخدم مصالحها وأغراضها ولا يصطدم بمطالبها الحيوية أو يضربها. هذا أعطى القوى المحلية و الإقليمية حرية أوسع في التصرف الثقافي والديني والاجتماعي والحربي، بما في ذلك التشبث والاقتتال الأهلي أحياناً مع التحديث والتطوير والإصلاح في أحيانٍ أخرى. لكن هذا بحد ذاته لا يفسر الكثير عن الحركات الأصولية وعن نشأتها وتفاقمها بسبب عموميته المفرطة ولا بد من أخذ الشروط المحلية والمجتمعية لكل حركة أصولية ناشطة اليوم. لا شك أن الأصولية الإسلامية هي رد فعل كما تؤكد، لكنها رد فعل، في نظري، على أزمة العالم الإسلامي في تفاعله الفاشل حتى الآن مع الحداثة الرأسمالية وفقاً للتعريف الذي قدمته لك للحداثة قبل قليل. الاستثناء الوحيد هو تركيا التي أصبحت نموذجاً ناجحاً نسبياً على ما يبدو يتطلّع إليه القسم الأكبر من الإسلاميين الوسطيين حالياً بدلاً من إيران، وبالتأكيد بدلاً من الأصولية الجهادية التكفيرية. لا أرى نجاحاً آخر حقاً غير تركيا علماً أن تركيا لم تكتفي بالتشبُّث وردود الفعل فقط.


الكاتب : حاوره: خلدون النبواني

  

بتاريخ : 11/05/2021