صحابة اتهموا بالكفر وعلماء بالزندقة 22 / المعتزلة عن أحمد بن حنبل: ضال وكافر ومبتدع ويجب قتله!

أفتى المعتزلي أحمد بن داود بأنه «ضال وكافر ومبتدع ويجب قتله» في مناظرة علنية حضرها الخليفة المعتصم وكبار رجال الدولة وفقهاء الاعتزال الذين حاولوا دفعه إلى القول بـ «خلق القرآن». وبعد استمرار المناظرة لثلاثة أيام متوالية والفشل المتوالى بإقناع الإمام بالعدول عن رأيه أحضرت السياط وشد الإمام على العقابين وهما خشبتان يشد الرجل بينهما للجلد، وجلد الإمام أحمد جلداً شديداً وعذب وأهين وهو ثابت على رأيه، وقام إليه الخليفة المعتصم طالبا منه تغيير رأيه ويقول له: «يا أحمد علام تقتل نفسك؟ إنى والله عليك لشفيق». وأغمى على الإمام من شدة التعذيب والضرب بالسياط، فأطلق المعتصم سراحه خوفاً من موته تحت التعذيب، خرج الإمام لبيته لتلقى العلاج ومات الخليفة المعتصم وولى مكانه ابنه الواثق، وكان من أشد الناس فى القول بخلق القرآن، لدرجة أنه أمر بالتفريق بين الرجل الذى لا يقول بخلق القرآن وبين زوجته، وأرسل الواثق لابن حنبل يأمره بالخروج من بغداد «لا يجتمعن إليك أحد ولا تساكنى بأرض ولا مدينة أنا فيها»، فاختبأ ابن حنبل فى بيت أحد تلاميذه، ثم انتقل لمكان آخر وظل هكذا عدة أشهر لا يخرج لصلاة فى المسجد ولا يلقى دروسه حتى مات الخليفة الواثق عام (231هـ) وجاء بعده الخليفة المتوكل الذى أبطل هذه المحنة ورفع الاختبار فيها، وحاول كثيراً استمالة ابن حنبل للعمل معه وتعليم ولده، ولكنه رفض بشدة.
وقال الجاحظ في الرسائل مناقشا أتباع أحمد بن حنبل: «وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة والمخلصين، إعذاراً وإنذاراً : امتحنتني وأنت تعرف ما في المحنة ، وما فيها من الفتنة، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة !
قال المعتصم: أخطأت، بل كذبت، وجدتُ الخليفة قبلي قد حبسك وقيدك، ولو لم يكن حبسك على تهمة لأمضى الحكم فيك، ولو لم يَخَفْك على الإسلام ما عَرَض لك، فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة، ولا من طريق الاعتساف ولا من طريق كشف العورة ، إذ كانت حالك هذه الحال وسبيلك هذه السبيل .
وقيل للمعتصم في ذلك المجلس: ألا تبعث إلى أصحابه حتى يشهدوا إقراره، ويعاينوا انقطاعه، فينقض ذلك استبصارهم فلا يمكنه جحد ما أقر به عندهم ؟ فأبى أن يقبل ذلك وأنكره عليهم وقال: لا أريد أن أوتى بقوم إن اتهمتهم ميزتُ فيهم بسيرتي فيهم، وإن بان لي أمرهم أنفذت حكم الله فيهم، وهم ما لم أوتَ بهم كسائر الرعية، وكغيرهم من عوام الأمة، وما من شئ أحب إليَّ من الستر، ولا شئ أولى بي من الأناة والرفق، وما زال به رفيقاً، وعليه رقيقاً، ويقول: لأن  أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق! حتى رآه يعاند الحجة، ويكذب صراحاً عند الجواب. وكان آخر ما عاند فيه وأنكر الحق وهو يراه: أن أحمد بن أبي دواد قال له: أليس لا شئ إلا قديم أو حديث؟ قال: نعم . قال: أوليس القرآن شيئاً؟ قال: نعم. قال: أوليس لا قديم إلا الله؟ قال: نعم. قال: فالقرآن إذا حديث؟ قال: ليس أنا متكلم . وكذلك كان يصنع في جميع مسائله، حتى كان يجيبه في كل ما سأل عنه، حتى إذا بلغ المخنق، والموضع الذي إن قال فيه كلمة واحدة برئ منه صاحبه قال: ليس أنا متكلم !
فلا هو قال في أول الأمر: لا علم لي بالكلام، ولا هو حين تكلم فبلغ موضع ظهور الحجة، خضع للحق. فمقته الخليفة وقال عند ذلك: أفٍّ لهذا الجاهل مرة والمعاند مرة. وأما الموضع الذي واجه فيه الخليفة بالكذب، والجماعة بالقحة وقلة الاكتراث وشدة التصميم، فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد: تزعم أن الله رب القرآن؟ قال: لو سمعت أحداً يقول ذلك لقلت. قال: أفما سمعت ذلك قط من حالف ولا سائل، ولا من قاص، ولا في شعر، ولا في حديث !
قال: فعرف الخليفة كذبه عند المسألة، كما عرف عنوده عند الحجة .
وأحمد بن أبي دواد حفظك الله أعلم بهذا الكلام، وبغيره من أجناس العلم، من أن يجعل هذا الإستفهام مسألة ، ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة . ولكنه أراد أن يكشف لهم جرأته على الكذب ، كما كشف لهم جرأته في المعاندة . فعند ذلك ضربه الخليفة . وأية حجة لكم في امتحاننا إياكم ، وفي إكفارنا لكم .
وزعم يومئذ أن حكم كلام الله كحكم علمه، فكما لا يجوز أن يكون علمه محدثاً ومخلوقاً، فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقاً محدثاً .
فقال له: أليس قد كان الله يقدر أن يبدل آية مكان آية، وينسخ آية بآية، وأن يذهب بهذا القرآن ويأتي بغيره، وكل ذلك في الكتاب مسطور؟
قال: نعم. قال: فهل كان يجوز هذا في العلم، وهل كان جائزاً أن يبدل الله علمه ويذهب به ويأتي بغيره؟ قال: ليس .
وقال له: روينا في تثبيت ما نقول الآثار، وتلونا عليك الآية من الكتاب، وأريناك الشاهد من النقول التي بها لزم الناس الفرائض، وبها يفصلون بين الحق والباطل، فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث .
فلم يكن ذلك عنده، ولا استخذى من الكذب عليه في غير هذا المجلس، لأن عدة من حضره أكثر من أن يطمع أحدا أن يكون الكذب يجوز عليه .
وقد كان صاحبكم هذا يقول: لا تقية إلا في دار الشرك. فلو كان ما أقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية، فقد أعمل التقية في دار الإسلام، وقد أكذب نفسه . وإن كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم منه، وليس منكم. على أنه لم ير سيفاً مشهوراً، ولا ضرب ضرباً كثيراً، ولا ضرب إلا ثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار، مشعثة الأطراف، حتى أفصح بالإقرار مراراً !
ولا كان في مجلس ضيق، ولا كانت حاله حال مؤيسة، ولا كان مثقلاً بالحديد ولا خلع قلبه بشدة الوعيد. ولقد كان ينازع بألين الكلام ، ويجيب بأغلظ الجواب ، ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش .


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 22/06/2017