شريط يحمل من الرمزية أكثر مما هو مباشر، عمل مخرجه على احترام شروط الإخراج بملكة إبداعية تدعو إلى التأمل، نظراً لما يحمله هذا الشريط من قضايا محورية في التعامل مع الصورة في غياب الحوار. فهذا الفيلم القصير استطاع أن ينفذ إلى أعماق الروح الكامنة في ثنايا تعبيرية، جسدها الممثل عمر مقتدر صحبة ابنه الطفل، ضمن مشاهد دالة تناقش تفاصيل كل لحظة أو مشهد على حدة، بصورة بانورامية مفتوحة في بدايتها على الفضاء الخارجي، لتنتهي بصور لفنان تشكيلي داخل مرسمه أثناء بحثه عن موضوع إبداعي يليق بتصوراته الدفينة، بحثًا عن إفرازات داخلية تستجيب لمراده الذي رافقه منذ بداية الشريط، الذي استهله المخرج (رشيد عماري) بطريقة ذكية، بتأملات ذاتية لفنان يستمتع بهدوء الطبيعة وألوانها وأريج النباتات والورود، في مكان لا يمكن أن يحتك به إلا من له الرغبة في الاستماع إلى مناجاته الداخلية، البعيدة عن الضوضاء والمفتوحة برؤية على مشهد بانورامي يتوزع على طبقات أفقية تبدأ بالأرض وتبايناتها اللونية الترابية، والسماء بإضاءتها الخافتة المطلة على الفراغ، ذلك الفراغ الذي توزع على دلالات تشكيلية وأخرى فيزيائية توحي بهمس الطبيعة، وما تزخر به من أسرار لها علاقة بالكون.
شريط لا تُسمع فيه إلا هبوب الريح وهمهمات صوت تدفق المياه من قارورة طفل كان يبيع الماء بالمقابر، وهو للممثل الصغير (زياد مقتدر)، مصاحبًا بنظرات معبرة بين الطفل والفنان، بموسيقى هادئة ومفتوحة على جميع التكهنات، لينتقل المخرج إلى فضاء مغلق، حيث سيتم تثبيت الكاميرا على الفنان وهو يستعد للاستحمام، قبل أن يباشر لوحته ويشرع في وضع الخطوط الرئيسية لرسمها وتلوينها.
لكن المثير في نهاية هذا الشريط، هو ظهور زوجين من العصافير كانا سجينين بقفص في ملكية الفنان، حيث ركز المخرج على أهمية الدلالة المشهدية التي جمعت بينهما، وكأن المتلقي في حضرة شريط موازٍ بين كائنين آخرين، ليخلق المخرج ازدواجية موازية تحفل بثنائية يحضر فيهما العقل والحس معًا بشكلين مختلفين.
فقبل أن يلج الممثل مسكنه، عمل المخرج في مشهد خارجي على التذكير بلقطة قد تحيل المتلقي على عمل للمخرج الروسي (أندريه تاركوفسكي)، عندما اتخذ من الشجرة مقياسًا لمفهوم الفضاء، حيث لم يتخذ من الفضاء فقط إطارًا وعنصرًا سينمائيًا أساسيًا، ولكنه فضاء مرتبط بشكل وثيق بالزمن، ليخلق جوًا وسيطًا شاعريًا خاصًا. فكما عمل (تاركوفسكي) على خلق فضاء للتعبير عن حالات داخلية مرتبطة بالذاكرة وعلاقة الإنسان بالعالم، فإن رشيد عماري أراد أن يسير في الاتجاه نفسه، وفي إطار السياق ذاته، ليضفي على شريطه مسحة فكرية وثقافية تدعو إلى التأمل وطرح الأسئلة.
لقد انشغل المخرج عماري في هذا الشريط باللقطات البطيئة والطويلة، كاهتمامه بالطبيعة، حتى يقارب مفهوم ما جاء كتَصوُّر أساسي ومحوري في مشروع (تاركوفسكي)، لكن الاختلاف يظهر جليًا في نوعية الإحساسات الداخلية التي أضفاها على هذا العمل، الذي جعل من الممثل أداة للحوار الداخلي المشحون بموجات كهرومغناطيسية لا يمكن أن يتوصل إلى خباياها إلا المبدع، فترك طائريه في قفصهما، وانطلق في الطبيعة بحثًا عن حقيقة ضائعة، بعدما أخفق ولم تسعفه ملكته الإبداعية في تحقيق مبتغاه في مجال الفن، ثم ترك باب التخمين مفتوحًا على مصراعيه للمتلقي، حتى يصبح جزءًا من البحث عن النهاية الممكنة أو المستحيلة، معتمدًا في ذلك على الصور المتحركة والثابتة في آنٍ واحد، لتغيب الصورة في حضرة بطل الشريط.
إشارة:
رشيد عماري ممثل ومخرج شاب من مدينة ابن سليمان، وهذا أول شريط قصير له، لم يُبث بعد في أي قناة، وسيُعرض قريبًا في إحدى القاعات بالمدينة نفسها، ولم يعتمد فيه على أي وجه سينمائي معروف، بل تم إنجازه بإمكانيات ذاتية.