تعود علاقتي بالشعر الملحون في المغرب، إلى سنوات خلت، منذ ترامت إلى مسمعي بعض القصائد المنشودة، بأصوات شجية تصدح بالحرف والنغم، تارة عبر أثير الإذاعة الوطنية، وتارة أخرى عن طريق الشرائط الغنائية المتداولة. وحين اقتربت من تلك النصوص ومن طرق الإنشاد المختلفة، أسعفتني الذاكرة، وهي في أوجها، لحفظ عدد كبير منها.
حين توسع الاهتمام بهذا اللون الشعري الدارج، تساءلت مع نفسي، في كثير من الأحيان: ما الذي يميز الشعر الملحون عن الشعر الفصيح، غير اللغة أداةً؟ فقد وجدت نفسي مأخوذا بسحر الكلام وجمال العبارة وبراعة التخييل. ومع توالي الاستماع والانطراب ببديع القصائد في المديح والغزل وغيرهما من الأغراض الشعرية، شرعت في تدوين وتسجيل الكثير من القصائد (فاطمة، المرسول، الشمعة، اللطفية، ناكر الحسان، التوسل، غويثة، خلخال عويشة، الدمليج، الوردة، الرعد، الدار، الكاوي، الورشان، الحراز، مزين وصولك، البراقية، الأم، زاوكنا في حماك، الزردة، معيار الباهيات، قصة حمان، وغيرها كثير..) بالإضافة إلى بعض المقدمات المعروفة في معجم الملحون المغربي ب(السّرابة)، لعل أشهرها سرّابة فصل الربيع، ومطلعها:
أسيدي فصل الربيع قبّل والوقتْ زيانْ
علامة الخير للْوْرى بانو
جادْ الزّمان وضْحك ثغرْ السّلوانْ
النّكْد تْفاجا وزالت حْزانو
ولما ارتبطت عملية التدوين بالحفظ والاستظهار، رحت أسأل عن معنى كثير من الكلمات أو تصحيح ما نسخته أو صوّرته من إملاء أو سماع، على سبيل الغلط أو سوء الفهم. ولست أنسى الأداء المتميز لبعض المنشدين، بالإعلام السمعي والبصري، أمثال عبد الكريم كنون والحسين التولالي ومحمد بوزوبع وما كان لهم من تأثير إيجابي على ذائقتي السمعية والأدبية، آنذاك. وأيضا ما كان للمجموعات الغنائية، التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي، كناس الغيوان وجيل جيلالة، من كبير الأثر في الانجذاب أكثر، إلى هذا الشعر، والولع به حين تعَصْرَن وصار غناؤه مُيسّرا على كل لسان.
غير أن هذا الولع لم يتمظهر في مجرد الاستماع إلى هذه القصيدة أو تلك؛ وإنما تحوّل مِنْ همّ معجميّ وثقافي إلى همّ وطني وحضاري، يبحث في أسرار هذه القصيدة ويصبو إلى سبر أغوارها. ولعل من جميل المصادفات، أن كنت حريصا على مواكبة مجموعة من الأنشطة الثقافية والفنية، التي كانت تنظمها إحدى الجمعيات المولعة بالملحون، حيث توزعت لقاءاتها بين عروض نظرية وقطع موسيقية وطرائف ومستملحات متفرقة. وهناك توطّدت صلتي ببعض الهواة والباحثين والنساخ والمنشدين/ الأشياخ، من أمثال الراحل محمد بنسعيد، الذي كان قد زودني بثلاث قصائد مكتوبة، استجابة لطلبي. وحين استلمتها بخطه الجميل، فهمت أن قصيدة الملحون تختلف عن القصيدة العمودية المُعربة، من حيث البناء والأوزان، قبل أن أغوص في بعض المصادر والمراجع التي عني أصحابها بفن الملحون، من قبيل: محمد الفاسي وعباس الجراري وغيرهما كثير، أو أتابع عددا من البرامج الإذاعية التي خصصت للتعريف بأصول هذا الفن والترجمة لأعلامه وشعرائه، من بينهم أحمد سهوم وعبد الرحمن الملحوني ومن حذا حذوهما.
وكم كانت فرحتي ودهشتي بالغتين، في آن، يوم تيسر لي لقاء شيخ الملحون، الراحل الحاج أحمد سهوم بإحدى مقاهي مدينة سلا العتيقة، ولمّا ألتحق بالجامعة، بعدُ. لقد وجدته مبدعا من طينة الكبار وخبيرا بقضايا الشعر والإيقاع. جالسته محاورا في كثير من أمور الشعر الملحون ومستفسرا عن شعرائه وعوالمهم الإبداعية والإنسانية معا. وللأمانة العلمية واعترافا بالفضل، ما بخل الرجلُ عليّ بمعلومة ولا ضنّ بإحالة إلى مصدر يضئ درب البحث والقصيدة. وهو ما قوّى رغبتي في مصاحبة نصّ إبداعيّ نُظم بلغة عامية، دون أن تزاحم ولعي بالقصيدة العربية الفصيحة. فروح الإبداع ظلت واحدة.
ويأتي هذا الكتاب، ليغطي جانبا آخر، من مساري النقدي الذي يستهدف تحليل الخطاب الأدبي، في تنوعه وتعدّده، بما فيه التراث الشعري/ الزجلي. وهو مسار انبثق من رؤية ثقافية وبلاغية صرف، ترى في الأدب المغربي وحدة متكاملة ومتجانسة في آن. فبعد الانهمام بالأبعاد الأجناسية المتمثلة في الشعر والسرد والنقد، مثلما الأمر في عملي النقدي الأخير: «الكتابة والرؤية» (2020)، وقبلها اهتمامي بعلم التحقيق والمخطوط، كما هو الحال في كتابي: «مديح الصدى» (2011)، يستحضر المنجز الجديد، ملامح البعد اللغوي وامتداداته في الخطاب الأدبي، بشقه العامي والشعبي.
يضم الكتاب دراساتٍ تشكل جانبا من رحلتي مع الشعر الملحون، قراءة وتأملا وتنقيبا ومقاربة. وقد اخترت منها أربع دراسات تحليلية مطولة، جعلتها في أربعة فصول، تعكس رؤيتي الأدبية والنقدية عن هذا اللون من النظم الشعبي، حيث الإنصات الممعن إلى صوت الشاعر، والنظر في تجربته الذاتية واللغوية والجمالية، ومدى تأثير خطابه في المستمع أو المتلقي.
وحرصا منّي في الارتباط بالنصّ ولا شيء غيره، آثرت ألاّ أخوض إلا في ما يقرّبُني من فهمه وتذوقه، عن طريق المساءلة والتحليل المنفتح على ما يسعف من المناهج النقدية الممكنة. لذلك وجّهت قبلتي صوب مناهج ذات صلة بالتاريخي والاجتماعي والنفسي تارة، وبالأسلوبي والبنيوي والموضوعاتي، تارة أخرى. غير أن هذا الاختيار لم يأت اعتباطا؛ وإنما فرضته طبيعة النص الشعري وما يحمله، في طياته، من أسئلة ذات أبعاد لغوية ودلالية مختلفة.
لقد تبيّن لي، انطلاقا مما اقترحته من مقاربات منهجية مختلفة، أن الشعر الملحون يقدم صورة مشرقة عن الدارجة المغربية، في تنوعها وانفتاحها، وفي رحابة معجمها وبلاغته. فقد استطاع شاعر الملحون، وهو ينسج قصيدته بوعْيِ المبدع وحسّ المجرّب، أن يتماهى مع الواقع الديني والاجتماعي والاقتصادي، من جهة، وأن يستشرف، في المقابل بلاغة القصيدة، في بعديها الإنساني والجمالي، من جهة ثانية.
والجدير بالذكر، أنّ المطلع على ذخيرة الملحون، عبر الدواوين التي طُبعت في الآونة الأخيرة، أو في غيرها من الكتب والكنانيش والكراسات والمطبوعات المتفرقة، تستوقفه، بالضرورة، لغة الملحون من حيث إنها لغة تتسم بالهوية المتعددة. فهي لغة تسمو بلسانها، وتمنح صاحبها إمكانية الجمع والمزاوجة بين الذاتي والمحلي والعالمي، في ذات الآن. وما تعدد الأغراض وتنوع الموضوعات وتداخل اللهجات وتفاوت الأداء، سوى دليل على رحابة هذا التراث الشعري وامتداداته في الزمان والمكان.
لقد وجد شاعر الملحون، في رحابة لغته اليومية، أو «لَـكْلام» بلغة أهله، ما لا يُحدّ من الألفاظ والتراكيب لبناء المعنى داخل النص/القصيدة. فكلما كان الشاعر مرتبطا بقضايا مجتمعه، الدينية والوطنية والسياسية والثقافية أو غيرها، كلما كانت الحاجة إلى توظيف اللغة ضرورة لنقل المشاعر ووصف المواقف والحالات. ومن ثمة، لم يكن عجيبا أن تُتداول، في هذا السياق، تلك العبارة الشهيرة: «الملحون فراجْتو في كْلامو». لكن ما المقصود بالملحون؟ وما هي وظيفته؟ وكيف تتحقق فرجته؟ أفي اللغة المنظوم بها فحسب؛ أم في الموضوعات المطروقة أيضا؟ ثم من المستفيد من كل ذلك؟ هل هو الشاعر/الناظم أم المتلقي/السامع؟ هي أسئلة، وأخرى ضمنية، تروم الدراسات الأربع الإجابة عنها.
أخيرا، أرجو أن يجد القارئ، بعض الفائدة العلمية والمتعة الفنية في اختياري لأسماء الشعراء: أحمد الغرابلي، عبد القادر العلمي، المدني التركماني، وأحمد سهوم، وكذا في ما اقترحته من مقاربة منهجية تروم بالأساس ردّ الاعتبار إلى رافد أدبي من روافد ثقافتنا، يتجلى في التراث الشعبي اللامادي، بصنفيه الشفاهي والمكتوب، ومنه الشعر الملحون. فبالرغم من كون شاعر الملحون انحاز، نظما وإنشادا، إلى العامية؛ فإنه لم يتوان في تجويد منتجه، معجما ودلالة، ولم يترك مجالا، إلا وعمد إلى استحضاره في سياق التجربة الشعرية. ومن ثمة، كان كلامه أبلغَ وخطابه أقربَ إلى ذهن المتلقي.
أترك القارئ الكريم، من خلال النماذج النصية المقترحة بغرض التمثيل لا الحصر، والمقاربة بمناهج سياقية ونسقية في آن، كي يتفاعل بدوره، مع مختلف العناصر والمكونات الفنية التي يزخر بها هذا الموروث الثقافي الشعبي، ويستشرف، بالتالي، جانبا من نبوغ المغاربة في إنتاج نص شعريّ دارج، لا يقل أهمية وإبداعية عن نظيره في اللغة المعيار.
« صنعة الــكــلام» ..دراسات في الشعر الملحون بالمغرب
الكاتب : أحـمـد زنـيـبـر
بتاريخ : 19/01/2024