بما أني كنت كبرى إخوتي، كان علي أن أفهم بالغَمزة وأتجنب الدَّبْزَة، كان علي أن أفهم أني وُلِدْتُ بنتا، شعري الطويل ( السالف) تاج، علي ألا ألعب مع الأولاد
دينيفْري، كرة القدم، كاما، ألعاب ليست للبنات..جسد هؤلاء ضعيف ومُغْرٍ، هذا ما أفهموني إياه منذ إدراكي أني ولدت بنتا..
«سيري نيشان واجي نيشان»، انظري أمامك، مَتْهَزيش عينيك فشي واحد..هذا ماكنت أقوم به كلما تجاوزت خطواتي عتبة البيت، وأنا لا أدرك سببا لذلك، حتى أني ذات يوم وأنا أحمل الخبز، على وصلة تساوي وزني، إلى فران الحومة ليطهى – وكان عمري آنذاك لا يناهز العشر سنوات- وبينما عيناي بالأرض ملتصقتان ..لا يهمني في ذلك سوى الوصول بسرعة الى الفران، فوجئت بضربة قوية على مؤخرتي الصغيرة ..أسقطتني مع مافوق رأسي أرضا، اختلط عجين الخبز بالتراب، واختلطت دموعي بصراخي من شدة ألم جرح على مسوى ركبتي، باع ، باع ..كان المجرم الذي فعل بي ذلك كبش الجيران المدلل..
الحيط، الحيط ولي خاف نْجا، ..مطلع تعودت سماعه كلما وجهت لي أمي نصائح
ذاهبة إلى المدرسة، قادمة منها، أو متجهة إلى مكان آخر ..أحاول أن أسلك طريقا خالية من المارين، فعلي أن أخاف من وقوع عيون الذئاب على جسدي، لكي أنجو، رغم هذا الإحساس، حس الفضول كان بي أقوى، فكنت حين أنهي الأشغال المنزلية، آخذ دميتي وأستأذن في الخروج للعب مع بنات الجيران، بعدما تأذن لي أمي أخرج، أترك دميتي على حِجْر صديقتي، وأتوجه نحو أولاد الجيران.. وبإلحاح مني أشاركهم في ألعابهم، علي أن أكتشف مواطن القوة في جسد هؤلاء.. كانوا محظوظين.. لهم حرية الجري.. الركض..القفز، الصراخ، وجدت نفسي أحلق بجسدي الصغير وأنا اشاركهم اللعب في حابا ودينفري، والضغط على جرس باب الجيران والهرب بعيدا، دميتي التي أوهم بها أمي أني سأتسلى في اللعب بها مع جاراتي الصغيرات، كانت ذريعة، للتخلص أحيانا من حمل أخي الصغير على ظهري لمساعدته على النوم، أو غسل الأواني..
أغلق باب البيت خلفي.. أبحث بنظرات حذرة عن رفاقي الأولاد لألعب معهم، وأنطلق بعيدا ..ركضا..قفزا وصراخا
أما دميتي فأتركها كالعادة بحجر صديقتي
هاته المتعة بدأت تتقلص وأنا أزداد طولا وعرضا مع مرور الأعوام..كذلك جيراني الأولاد حصل لهم نفس الشيء.. لم أنتبه للتغير الذي طرأ على جسمي من شدة تلهفي إلى اللعب معهم.. فكان من بعضهم تنبيهي إلى ذلك وهم بي يتحرشون.. هناك من يغمز.. من يتعمد الارتماء علي .. من يغني لي الراي وهو يكاد يلصق وجهه بوجهي مرددا «يازينة ديري لتاي..»
حسبت كل ذلك جزءا من اللعب.. حتى فاجأتني أمي ذات يوم وهي عائدة من السوق، تضع القفة المملوءة ب»التقديا» أرضا، ثم تمسكني من شعرى الطويل المتدلي خلف ظهري ، فتشبعني لكما ورفسا وهي تقول:
واش عزبا قدك باقيا تلعب مع لولاد ، باغيا تفضحيني ..
ركضت هاربة نحو البيت، لأرتمي في البهو بحضن جدتي وصوت بكائي يطغى على ما ترميني به أمي من سب وشتم..
بعد هدوء العاصفة بقليل انسحبت ببطء من حجر جدتي، لكن قبل أن أستقيم واقفة، تدعوني فجأة للتوقف، تقترب مني ..ثم تهمس بأذني:
كبرتي يا سليعفانة ووليتي مرا ..
تابعت باندهاش اتجاه نظراتها لألاحظ أن فستاني الكوضي الأبيض والمنقط بزهور صغيرة زرقاء قد غمره سائل أحمر قان ..عدت إلى البكاء وصراخ هستيري يتملكني، وأنا أتوجه نحو أمي..
كيف أقنعنهم أني مازلت أحب اللعب معهم، وأن لا شيء تغير بداخلي، وأن جسدي خذلني، وأنهم معه يتواطؤون ضدي إذا صدقوا ما يقول ..وما تقول أمي وما تؤكده جدتي ..
طال حديثي إلى نفسي وأنا واقفة أمام المرآة شبه عارية، أتأمل في قمة الدهشة أن هناك أشياء كانت هي أيضا تجري بداخلي وتسارع للظهور أمام عيني بهذا الشكل ..
تحول تضاريس جسدي مع مرور الأعوام، لم ينسني هاته المحطة، بل زاد في ترسيخها وتثبيت حضورها، خاصة من خلال مزاولتي للكتابة، لأخضع عبرها صوت ذلك الجسد الجاحد لبوصلة عقل وقلب تعاهدا معا على الانتقام لنفسيهما منه.. وتسخيره تابعا مطيعا لما أرسمه وأخطه مجازات.. استعارات وصورا، تفرض فيه عليه الرغبة المتوازنة، الوعي واللاوعي بما سيقوم به وتملي عليه ما سيؤول إليه.. وأن ما تتصف به أرواح شخوصي من جمال على أجسامهم سينعكس، وأن ما يطالها من قبح على ما تقوده من أجساد سيقع ..
فتارة أجعل الجسد يختزل حياته بحقيبة اليد وما تحمله من بوتوكس وفيلر، وتارة مطية يصبح، نحو نور تلمسه الروح في آخر الممر…
أقسمت أمي أن تقص ريشاتي حتى لا أقوى على الطيران، أن تحول مجرى النهر حتى لا يجرفني التيار، أن تغرقني في سخطها من ساسي حتى لراسي إذا أطعت أفكاري البليدة الأمارة بمهادنة الشيطان..
أن تحرص كل الحرص على منعي من التوجه إلى صالون الحلاقة، حتى لا أبتلى بقص الشعر والتشبه بالممثلات وعارضات الأزياء..
أقسمت أيضا أن تقطع رجلي بمجرد الظن بصوت عال أني قطعت الواد ونشفو رجلي، وأن تغرس أسنانها في لحمي إذا ضبطتني أتحدث مع ابن الجارة..
صوت ذلك الجسد الجاحد
الكاتب : سعيدة لقراري
بتاريخ : 03/10/2020