صورة الأم في رواية «سرداب النسيان»

يكتسي الأدب الروائي أهميته من كونه فعلا إنسانيا قادرا على التعبير والإفصاح والبث، بث كل ما تموج به النفس البشرية من مشاعر وأحلام وتشوُّفات،التعبير عما يدور في خلَد الإنسان ويشغل فكره أو يسيطر على وجدانه، سواء تعلق الأمر بالإنسان في صفته الفردية أم الجمعية.
وتأتي رواية (سرداب النسيان) للكاتب المغربي، عبد القادر الدحمني، منسجمة مع هذا التمثل ومؤكدة عليه، بل وتجليا له. إذ نلفيها عملا فنيا مشغولا ومنشغلا بالقضايا المختلفة التي تمس جوانب حياة المرء المتعددة، السياسية والدينية والعاطفية والاجتماعية… هذه القضايا التي تفعل وتتفاعل في المجتمع المغربي مدا وجزرا، ضمورا وبروزا، وبذلك تسهم في تكوين هذا الإنسان وفي نظرته إلى الحياة والوجود بوجه عام.
ومن بين الموضوعات التي تطرحها الرواية على نحو لافت، إلى جانب ما ألمحنا إليه، نجد موضوعة يتماس فيها الاجتماعي بالعاطفي والثقافي بالديني، نقصد موضوعة الأم.
فبأي صورة حضرت هذه الموضوعة في متن الرواية؟
وكيف عُرضت شخصية الأم وما الغاية من ذلك؟
صورة الأم بين اليوتوبيا والديستوبيا:
الأم واليوتوبيا
إن المتأمل في النِّتاج الإبداعي، بالمعنى الواسع للمفهوم، وما يستبطنه من أجناس وأنواع وألوان ومدارس وتيارات، سيلاحظ أن موضوعة الأم تحضر على نحو طاغ في جل هذا النتاج، كما سيلاحظ أن هذا الحضور تغلب عليه النظرة الوردية والطرح الرومانسي الذي يميل إلى تصوير الأم بشكل يكتنف الكثير من القدسية ويضفي عليها سمات من الصفاء والطهرانية، فتغدو بسبب من ذلك، كائنا ملائكيا لا تعرف النقائص إلى نفسه وجسده وطبائعه وما يجترحه من أفعال سبيلا!
ويمكن التدليل على ذلك بكثير من الاستشهادات من مختلف النصوص الإبداعية المحلية والكونية، ولعل السرديات الدينية، الإسلامية منها بخاصة، أسهمت بشكل وافر في خلق هذا التمثل وتشكيل هذا التصور «الكامل» للأم.
فالأم هي التي توجد الجنة تحت قدميها وهي الأَولى بالصحبة من الأب، وهي (ست الحبايب، الأغلى من الروح والدم، بتعبير فايزة أحمد). ونتيجة اعتمال كل هذه الأسباب وتضافرها، غدت الأم علامة على التضحية التي لا نظير لها،وسمة على الإيثار غير المشروط الذي لا إيثار يكافئه. ثم صارت، في كثير من التعابير الرمزية، معادلا للأرض والماء والطبيعة والتجدد، بل وللحياة نفسها…
ولعل في قول ‹عبد الرحمان منيف› في رواية الأشجار واغتيال مرزوق: «إن الأمهات يا صاحبي يمتلكن إحساسا خارقا بالأشياء، إنهن مثل الأشجار لا يتكلمن كثيرا، ولكن يعبرن عن أنفسهن بطريقة لذيذة». (ص 63)
ولعل في قول ‹محمود درويش› (قصيدة إلى أمي) الذي يحن إلى الخبز والقهوة واللمسة، هذه الأشياء العادية، غير المفكَّر فيها كثيرا، التي لا تظل كذلك حين يكون مصدرها الأم: (وأعشق عمري لأني/ إذا مت/ أخجل من دمع أمي!). هذا الإحساس الذي يدفع الواحد منا إلى محبة عمره وتمسكه بالحياة وإقباله على العيش واستمراره في التنفس، ليس بدافع ‹ذاتي› أو غريزي أو طبيعي، وإنما هو مرتبط بحرص الابن على عدم التسبب في بكاء الأم فحسب، لعل في هذا القول أيضا، ما يشي بهذه النظرة الحالمة التي يطرحها الأدب حين يتعلق الأمر بموضوعة الأم.
إن لهذا التمثل ما يسنده على المستوى الواقعي وما يعززه إذا ما نظرنا في الحياة المعيشة اليومية، لكن السؤال المُغيب، في نظرنا، والذي يندر طرحه هو: هل هذه الصورة هي الوحيدة التي تتصف بها الأم؟ ألا يمكن تنسيبها من بعدها المطلق؟ ألا يمكن أن نجد صورة أخرى لها، مغايرة، وربما نقيضة؟
الأم والدستوبيا
على غير النظرة الحالمة التي حاولنا تبيين بعض ملامحها في المبحث السابق، في نوع من الاختصار، سردا وشعرا، نجد أن رواية (سرداب النسيان) تعرض نظرة مختلفة تمام الاختلاف عن سابقتها، نظرة تعكس صورة الأم الشريرة، الأم القادرة على الإيذاء وإلحاق الضرر بطفلها، بل والإمعان في ذلك والتفنن فيه. بمعنى أنها تجرِّدها من هالة القدسية وتنزع عنها بردة الملائكية وتنزل بها من ملكوت التمثل الكامل إلى سياق الواقع، فتغدو إنسانا عاديا، له أيضا مثالب واعتوارات تتخلل سلوكاته. وذلك من خلال علاقة شخصية (المحجوب) الابن، بشخصية (حادة) الأم. وهذا يتساوق وينسجم مع «الطرح اللوكاتشي الذي اعتبر الرواية تاريخا منحطا ‹شيطانيا› يبحث عن قيم أصيلة، في عالم منحط». (أحمد اليبوري، في الرواية العربية، ص 13)،وهذا والانحطاط الذي يغشى العالم، يصيب حتى الأم التي هي جزء منه.
تقدم لنا الرواية شخصية المحجوب على أنها شخصية شديدة القوة بالغة العنف وعظيمة السيطرة، ولها من الكاريزما يمنحها نفوذا وهالة في نفوس الآخرين. ولذلك نجحت في ميدان لا ينجح فيه إلا القليل، وهو مجال المخابرات، وتحديدا استنطاق المعتقلين السياسيين في حقبة سياسية خطيرة عرفها المغرب السياسي الحديث (الاعتقالات التي مست الإسلاميين بتهمة الإرهاب بصفة خاصة…). هذه الشخصية التي لا يصمد أمام جبروتها أعتى الرجال جسدا وأشدهم قوة نفسية وأذكاهم فطنة وأجلَدهم فؤادا، فغدا نتيجة ذلك كله جلادا مهووسا بالتعذيب. يقول المحجوب: « صرت جلادا يا أمي، رجل تعذيب وآلة فتك عمياء، أعمل بإخلاص ومثابرة على تدوير قسوتك معي، وإعادة إنتاج عنفك وقهرك في نسخ متطورة للغاية» ص. 69.
هذه الشخصية، بكل ذلك الهيلمان،نجدها تتحدث عن علاقتها بأمها، فيسقط عنها كل ذلك دفعة واحدة، ويغدو المحجوب ذلك الطفل الصغير الخائف المرتعد بمجرد ما أن يتذكرها. نصادف السارد يوضح لنا بعضا من هذا التحول الصارخ:»ويحضر وجه أمه من جديد، ويبدأ الجلد العنيف ويشرع الحزن الكبير في نقل أدوات عمله الثقيلة كأنه بصدد إقامة مشروع كبير في أنحاء ذاته» ص 15. فالمحجوب، هذا الرجل المهاب المخيف، لم يقدر، رغم كل تجاربه وعمله وسنينه وانغماسه في الحياة، على أن يتخلص من ثقل الذكريات الموشومة بالعنف والممهورة بالتعذيب. من لدن من؟ – وعلى غير العادة/ الصورة النمطية -من لدن أمه:
«لم يستطع الكلام، خنقته العبرة ورأى نفسه صغيرا أمام أمه حادة. تمسك بقفاه أو تجره من أذنيه وتقطر كلماتها البذيئة في قعر دماغه). ص 27.
وأصبح المحجوب، وهو الكهل الذي أحيل على التقاعد، يقاوم البكاء ويلتزم الصمت كما كان يفعل وهو بعد غلام يتخلق: (صمم على الصمت الصخري كما كان الحال عندما تشرع حادة في تعذيبه لتلقنه صيغ الكذب على أبيه كي يتستر على بعض ألاعيبها). ص 27.
يتذكر المحجوب سنين صباه فلا يجد غير العتمة المقيتة التي لا ينفذ إليها قبس من ضوء. طفولة فقيرة من كل حنان أو لطف. يتذكر أن أمه كانت تقيم له حفلة تعذيب، شبيهة بالتي أصبح يقيمها للمعتقلين وهم ضعاف تحت سلطته: «وصل الخبر إلى أمي حادة، فعرفت أنني على موعد كريه مع مقصلتها التي لا ترحم). ص 53.
ثم نجده يحكي لنا سبل وصيغ التعذيب التي كانت تنتهجها الأم حادة. وفي اصطفاء الكاتب لهذا الاسم ما يدل على الطبع والسلوك الحاد في قبح لا في حسن، تجلى في معاملة الأم للمحجوب: « جرتني أمي من أذني كأنها تنتزع شيئا مستعصيا، استفردت بي …أغلقت باب الغرفة، تلقيت وابلا من الصفعات. لم أعرف كيف أصد عاصفتها، نتفت شعري وجرت حنكي حتى كادت تتركني جمجمة مشوهة بلا جلد، قرصتني بجنون ثم عضت يدي حتى أحسست بأنها أخذت قطعة لحم في فمها). ص 53.
لنجده يضيف في ما يشبه الاعترافات، راسما صورة قاتمة شديدة النذالة للأم:
«لم أبك، منعني الرعب أن أفعل لأنني أعرف أنني إن فعلت،إنما أضاعف غضبها الهستيري). ص. 53. فالأم ها هنا لا تغضب فحسب، حين تراه يبكي نتيجة الألم، بل يجن جنونها ويركبها غضب مرضي…
وتتتالي طقوس التعذيب من الأم حادة على المحجوب الطفل، فقد اعتاد على الأمر، وأصبح عنده في حكم السلوك العادي الروتيني، إذ لا يخلو نهار يومه أو ليله من تعنيف لفظي بالسب، أو جسدي بالضرب، الضرب الحقيقي:
«كنت قد ألفت ضربها العنيف واكتسبت بعض الجلَد في تحمل كل ذلك الضرب المبرح بلا شفقة، وصرت أعرف طرائق تعذيبها لي بكل أنواعه وتفاصيله بمقدماته ونهاياته. قد يبدأ بنتف الشعر وسلخ الجلد وينتهي بالسهل والنهش بالأظافر، كنت أدري أنها تصبح مجنونه إذا ما غضبت وقد يصل بها الأمر إلى كي جلدي وتهديدي بالذبح والتقطيع إربا إربا بلا ندم» ص. 53. بل وتزيد على ذلك، فتخوفه بما يمكن أن تفعله، من دون أن تساورها أدنى ذرة ندم أو يؤرقها تبكيت ضمير، تخوف طفلا بوعيدها المفزع وتدفعه إلى تخيل ما يمكن أن يكون مآله:
«كانت تجرني إلى بيتنا الواطئ، وتقف بي على حفرة البالوعة المفتوحة، ثم تخبرني أنها يوما ما ستقذف بي هناك دون رحمة، وأحيانا كانت تخبرني بأنها قادرة على أن تحفر قبرا وتدفنني ثم تهيل التراب علي وتخفي موتي، ولن يعرف أحد ماذا حل بي) ص. 53. وفي هذا السلوك ما يشي باضطراب في سلوك الأم، وبالتالي، في التمثل السائد حولها.

خاتمة
بعد قراءتنا للمتن الحكائي وتحليل ما جاء في تضاعيفه من أحداث ومواقف وقيم، نخلص إلى أن موضوعة الأم تحضر في رواية سرداب» النسيان»، ليست بوصفها تلك الأم المربية المنتجة للأجيال الذين يخدمون أنفسهم وأوطانهم، أجيال غير معطوبة نفسيا وغير ‹حاقدة› اجتماعيا وغير ميالة لإلحاق الأذى بالآخرين.. بل إنها تحضر بصورة مختلفة كليا، ذلك أن المحجوب الرجل، هو نتيجة للمحجوب الطفل، نتيجة صنيع الأم المهووسة بالعنف والسادية في الطبع، وهذا ما نجده صريحا في قول المحجوب أثناء تذكراته وتداعياته: « أنت صانعة هذا المجد الأسود يا حادة، أنت زارعة هذا الوباء الذي لا شفاء منه». ص. 71.
وهذا ما يدفعنا إلى أن نتساءل: لماذا لجأ المبدع إلى هذا الطرح المختلف عن السائد حول موضوعة الأم في روايته؟ ما غاية الرواية ومقصديتها من تعمدها تصوير الأم على هذا النحو الديستوبي الأسود؟

* كاتب وناقد مغربي


الكاتب : عبد الجليل الشافعي

  

بتاريخ : 08/06/2024