يعترينا الشعور بالغبطة والنشوة عندما نشاهد فيلما من قبيل: Great Debaters أو The Dead Poet’s Society أو Dangerous Mindsأو Taare Zameen Par أو غيرها من الأفلام التي تزرع الأمل في المدرسة وفي رجل التعليم وتُصوره بطرقٍ جماليةٍ مبينةً دوره الفعال والفاعل في بناء مجتمع متماسك، ومثقف، ومواطن.
هذه الأفلام تعكس من جهة، الرؤيةَ الجماليةَ والفنيةَ العاليةَ لمخرجيها، ومن جهة أخرى، تظهر الموقف الفكري تجاه رجل التربية والتعليم حيث الاعتراف بإمكانياته وقدراته الخلاقة، ليس فقط في التأطير والتربية والتعليم، وإنما أيضا في التغيير باعتباره مطلبا إستراتيجيا ومقصدا ساميا للرقي بالفرد والمجتمع. غير أن هذه الغبطة سرعان ما تتبدد وتتلاشى كلما شاهدنا فيلما مغربيا يتناول موضوع المدرسة أو رجل التعليم نظرا لما يعتريه من تمثيل مبتذل وتنميط وقولبة.
يدفعنا الحديث عن صورة رجل التعليم في السينما المغربية إلى التأسي، والحسرة، والأسف على إنتاجاتنا السينمائية والتلفزية التي تستمر في تزييف الواقع وهدم ما تم بناؤه من طرف المؤسسات التربوية لعقود؛ حيث إنها تنزل في كل مرة بسياطها على صورة المدرسة ورجل التعليم، فتبخسها أيما تبخيس، وتحقرها أيما تحقير. فالأسف كل الأسف على سينمانا التي كنا نأمل فيها التجديد، ونرى فيها التغيير ورَدَّ الاعتبار لمكانة المدرسة عامة وصورة رجل التعليم خاصة التي أطيح بها عبر مجموعة من المنابر الإعلامية.
لكن تَبين أنها تلعب اللعبة نفسها بالورق نفسه، وبالعقلية نفسها، وبالمنطق نفسه؛ إنه منطق السوق، ومنطق الربح، ومنطق البيع والشراء، لا أقل ولا أكثر. فإذا قمنا بإطلالة قصيرة على الإنتاج السينمائي والتلفزي المغربيين، فإننا لا نجد أعمالا تناولت هذا الموضوع إلا وعملت على ضرب صورة رجل التعليم والمدرسة في العمق: بداية بالأستاذة التي يخيب أملها في العالم القروي الذي عُينت به، في فيلم “المعلمة” للمخرج حسن المفتي، حيث صار هَمُّها الأوحد الانتقال ولو بالتحايل على القانون؛ أو الأستاذ الذي تقوده عاطفته إلى الهلاك، في فيلم “الخيل تسقط تباعا”، للشريف الطريبق، حيث التأكيد على أن دراسته لم تنفعه، ليهلك العِلم في غياهب الجهل وظلماته؛ أو الأستاذ الضعيف الشخصية والذي لا يثق في نفسه، في فيلم “الأستاذ” لمحمد علي مجبود، لينتهي نهاية مأساوية..
هذا أو الأستاذ الشهواني والاستغلالي والمرفوض اجتماعيا، في فيلم “ألف شهر” لفوزي بن سعيدي؛ أو الأستاذ المنبوذ في فيلم “جوق العميين’ لمحمد مفتكر، ودوره الهامشي في الفيلم وهو ما يكرس هامشيته في المجتمع؛ أو الأستاذة التي تتخذ من الجلوس والتماطل عن أداء الواجب حلا لمعالجة ظاهرة الشغب، وهو ما لا يعتبر مشروعا قانونيا ولا تربويا ولا بيداغوجيا لكنه صُوّر، في فيلم “القسم 8” لجمال بلمجدوب، على أنه عمل بطولي؛ الأستاذ المتردد والمتسرع في فيلم “صدى الجبل” لعبد الله العبداوي؛ أو الأستاذ الهارب من الواقع، في فيلم “غزية” لنبيل عيوش، حيث يترك قِسمَه بعد تدخل المفتش في درسه ليدخل في حالة انهيار ثم يترك حبيبته التي كان يقضي معها ليالٍ حمراء، ثم المسلسل “ولاد يزا” للمخرج إبراهيم الشكيري الذي زاد الطين بلة، حيث يقدم رجل التربية في صورة موغلة في البشاعة لا تعكس الواقع، بل تبعث على تكريس صورة نمطية تنقيصية.
ذلك وغيرها من الأفلام، التي وإن حملت رؤية جمالية ومتضمنة لبعض التيمات والظواهر الاجتماعية الواقعية، إلا أنها لا تعدو عن وصفها أفلاما تكرس للمدرسة صورة الدونية، والقبح، والفقر، والنكوصية. ما يؤكد ذلك هو نوعية اللقطات المستعملة في بناء المشاهد التي تحضر فيها المدرسة أو الأستاذ، حيث نجد اللقطات العامة ‘plans généraux’ التي لا تصف فقط المجال الجغرافي المعزول عن العالم (المدينة) والنائي عن كل مظاهر الحضارة، بل تصور أيضا العزلة والتذمر والبساطة الهالكة؛ اللقطات الكبيرة ‘gros plans’ التي تغوص في قسمات الشخصية لتكثيف إحساسها بالخوف، والغربة، والعزلة، والنقص؛ واللقطات المأخوذة بتقنية كاميرا من فوق caméra plongée’’ ، والتي تُحقر وتحط من قيمة الشخصية، إضافة إلى اللقطات الثابتة ‘plans fixes’ التي تكرس معاني الخنوع، والجمود والركود؛ ضف إلى ذلك طغيان المونتاج النغمي على هذه الأفلام الذي يعمق بوعي أو بدون وعي الإحساس بخيبة الأمل في المدرسة ويكثف الشعور بالشفقة تارة وبالاستهزاء والتهكم من رجل التربية تارة أخرى.
تجدر الإشارة إلى أننا لا نحاول هنا التمهيد لممارسة أي نوع من الرقابة على الفن؛ لكننا ندعو إلى إعادة النظر في المواقف والأحكام النمطية التي يحملها العديد من المهنيين في القطاع السينمائي. وإننا نعي جيدا أن ما يتحجج بع بعضهم من قبيل: إنّ الفيلم وصف للواقع، إنْ هو إلا هراء وهرطقة؛ فلقد تجاوزنا وصف الواقع بما يكفي، وحان الوقت لأن تلعب السينما دورها المنوط بها بشكل متواز وعادل في سبيل رد الاعتبار لرجل التربية والتعليم. فواقع الحال يدفعنا لطرح عدة تساؤلات، حيال تجديد الإنتاج السينمائي، ولو بصيغ استنكارية من قبيل: ألا يوجد في مجتمعنا وفي مدارسنا سوى الأستاذ المكبوت؟ والأستاذ الأحمق؟ والأستاذ المدان قهرا وفقرا؟، والأستاذ الضعيف أمام نزواته المتخلي عن طموحاته؟ والأستاذ البخيل؟ والأستاذ النكتة؟..
ألا يوجد في مجتمعنا أستاذات وأساتذة يمكننا أن نعتبرهم قدوة في الفكر النقدي والمظهر الأنيق والاجتهاد المهني والعطاء المتفاني والوطنية اللامشروطة؟ ألا توجد في مجتمعنا مدارس نموذجية خَرّجت ولازالت تخرّج خيرة الأطر؟ ثم ألا يوجد من بين السينمائيين رجل رشيد، أو امرأة رشيدة بيداغوجيا، وتربويا، وديداكتيكيا، وفكريا كفايةً – مع أننا نعلم بوجودهم ونقر بمستواهم الفكري- لصياغة عمل فني يرصد لنا تجربة رائدة وفريدة تزرع في النفوس حب واحترام المدرسة ورجل التعليم؟ هل من الصعب التفكير في كتابة فيلمية عن رجل تعليم كفء، ومحبوب، ومتفان في عمله، ومقتنع به؟ أم أنه لا توجد إرادة صريحة للدفاع، والنضال حد الترافع عن قضايا التربية والتكوين من داخل السينما؟..
ثم، ونحن اليوم ندافع عن رهان إدماج الثقافة السينمائية في المنظومة التربوية بشكل فعلي ورسمي، فأي سينما سنعرض لطلابنا ولتلامذتنا؟ هل السينما التي تحط من قيمة رجل التربية والتعليم، وتجعل منه محلا للسخرية والتنكيت والتنكيل؟ أم السينما التي تجعل من المدرسة حلبة للصراعات المجانية، ومكانا لهدر الوقت، والتشبث بالأوهام؟.
إننا من هذا المنبر، إذ نعي الدور الهام الذي تلعبه السينما في تغيير المواقف والأفكار والسلوكات، وهذا ما تحدث عنه تروتسكي في إحدى مقالاته، حيث وصف السينما ب’السلاح’، ندعو إلى تدارك الأمر بشكل جدي وحازم. إذ إن فعلا بسيطا قد يقود إلى ما لا يحمد عقباه. فضرب صورة الأستاذ والتنقيص منه سيكلف الوطن سنوات من التغيير. لذلك نرى أن إصلاح المنظومة التربوية يجب أن يصاحبه إصلاح في المؤسسات الموازية وأهمها مؤسسة الإعلام؛ حتى لا تقوم مؤسسة بهدم ما تبنيه أخرى.
(°) ناقد مسرحي سينمائي، عضو مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام، من أعماله: “خطاب السينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات”.