سؤال بدهي جديد، يقحم المتخصصين في الخوارزميات الرقمية واستتباعاتها الثقافية والمعرفية العامة: هل تمة سيكولوجيا للترند، أو ما يتمثل صور AI Avatars الأفاتار ، التي هي جزء من الأونيمات الرقمية للشخصيات في بيئة افتراضية، مدعومة بتقنية الذكاء الاصطناعي؟
لا غضاضة، في أن السؤال هو بالضرورة عودة للتأثيرات النفسانية المبثوثة في قوالب الترند، بما هي جنوح وتلبس سلوكي فرداني، يتحول بفضل التوهم بامتلاك الأفاتار، كجزء من مكنون حقيقة متخيلة وجانحة.
وقد أبدى الباحث والطبيب النفسي المغربي نوح رابي، رأيا معقولا حول تورط ما أسماه ب»التنشئة الرقمية»في قضايا توجيه السلوك الجمعي من «الفلتر الى الأفاتار»، معتبرا أن «سيكولوجيا الأفاتار هو سلوك الأفراد وتفاعلاتهم مع الأفاتار الرقمي، وهو تمثيل رقمي للأفراد في البيئات الافتراضية مثل الألعاب الإلكترونية والمنصات الاجتماعية وتغيير الوجوه الاصلية الى دميات عبر الواقع الافتراضي».
بيد أن السيكولوجيا، كعلم قائم الذات تبحث في السلوك من حيث علاقته بالحياة العقلية شعورية كانت أو لا شعورية، تتمنع في توصيف تلك البيئات الافتراضية، منزوعة الهوية القيمية، والمنشغلة بتحفيز مدركات الكائن البشري، وإغرائه بقوانين تكون أحيانا ضد الطبيعة الفيزيقية والعقلية، وتكون مدعاة للتفكر والقياس، قبل التفاعل والتأطير.
وإذا كان الأفاتار يمثل سياقات فردانية في تلكم البيئات الافتراضية، ويتوجه في أغلب وضعياته إلى اجتراح عوالمه واستبطانها عبر تحويل مشكلات الفرد ذاته، بترميم أو تصحيح رؤيته لها، خروجا عن حال بتمرد أو يأس أو حتى اضطهاد ، فإن التشكل في اللاشعور، عبر تلكم الانتقالات، التي وصفها نوح رابي ب»العيش داخل عالم كلي غائبها»، يعطي الانطباع بضرورة فرز «الهوية الاجتماعية» عما يعتمل في البيئات الافتراضية المرموزة والمقنعة، والغاصبة لروح الذات الأصيلة. وبالتالي، فإن الحيز السيكولوجي، لا ينفك ينبثق من إعادة تأويل النصوص المستحدثة في السوسيولوجيا الرقمية المنطوية على قدر كبير من التأمل والتفكير، إذ إن ثمة عاملين أساسيين يسيطران على توجهنا لمعرفة مسلكيات هذا التصور واعتمالاته في منهجية البحث والممارسة:
*العامل الخارجي السابح في الظروف المحيطة وما يعتورها من تبدلات.
* العامل الداخلي الواجد لحالة الشخص المزاجية والنفسية العامة.
أين نحن إذن من الجمهور الذي لا يكتفي مما يدرك من الأشياء الحسية، بل يتوق إلى ما هو أرقى من البرهان، أو أي طريقة للاستدلال، عوضا عن الافتراض أو كل ما ينفصل عن الأدلة الكامنة في الظن والاعتياص؟.
إن ما تشكله السيكولوجيا الحديثة، في جانبها المرتبط بالعلاقة السلوكية للأفراد مع الظواهر الأكثر توحشا في العلامات والرموز الافتراضية، كالأفاتار مثلا، حيث تعشعش الأسطورة الاصطناعية الغامضة، في الأحواز اللازمنية واللامعقولة، وتستدرج الناشئة والشباب، لاقتناص فرص التمثل المادي السريع، يضع المجتمع في مأزق القيم وامتلاك الفهم الحقيقي ل» جوهر الأشياء المخترعة»، دون انحياز لمنطق البرهان والاستدلال، أو انصراف إلى تحصين قاعدة الامتلاء المعرفي والانضباط المجتمعي الموصول بالفعالية والاتساق والجهوزية والتواصل الإيجابي.
الخوف يبقى قائما في أن تكتسحنا الأنانية والإذعان المستمر في التأثر بخلفيات واستيهامات مواقع التواصل الاجتماعي ومحمولاتها الثاوية، حتى نصير عبدة لصناعات مُتنجِّسة، تبتكر أشكالا جديدة للصراعات الأخلاقية، كما هو الحال بالنسبة للعنف والكراهية والتحرش والتنمر…إلخ.
كان الباحث البريطاني بروزيك كاندولو، قد كشف في إحدى محاوراته حول «الأشكال الجديدة للتأثيرات الافتراضية في عالم الأنترنيت» عن انحراف التكنولوجيا الرقمية إلى مساحة أوسعفي قيم تفاقم العنف وانتشاره،معتبرا التكنولوجيا الرقمية أداة في كل مكان، توفر فرصًا غير مسبوقة للتكريس والانبهار، ولكنها أصبحت أيضًا ناقلًا للعنف، لا سيما من خلال «خطاب الكراهية والتحرش عبر الإنترنت ونشر المعلومات الكاذبة».
والأخطر في كل ما ذكر، أن عدم الكشف عن الهوية في الخوارزميات الرقمية الذي توفره المنصات الشاسعة، يمكن أن يشجع السلوك العنيف، بينما يجعل من الصعب محاسبة الجناة. وهو ما يؤخر جزءا ضئيلا من أهمية التعليم الرقمي الذي يمكن الشباب من التنقل في هذه البيئة المعقدة دون أضرار أو مخلفات سيكولوجية وثقافية واجتماعية.
تأثير ماثيو
في مجتمع الشبكة
من البدهي أن تكون عملية الاتصال والوصول في مجتمع الشبكة اليوم، فارقة ثقافية اجتماعية موقوتة، تعيش مرحلة التعايش الحذر، أو ما يسمى ب»مرحلة الكتلة الحرجة»، أولا لأنها انخلقت من عوائد تقليدية نمطية، ليست لها جذور إعلامية ذات أسس أخلاقية ومهنية متينة، وثانيا لأنها انبرت عن فواعل نخبوية محدودة، تشكل كتلة النخب المعلوماتية والثقافية والاجتماعية جزءا من مكوناتها.
من هذا المنطلق، كان الوصول إلى الشبكة بكفاياتها المحدودة والمنمطة، يشغل جانبا من الفهم لا يتعدى المسلكيات الأولية للاتصال، ما جعل من مسألة التوجيه والامتداد في المجتمع يأخذ منعطفا محذورا في انتشار المعلومات وضبطها واستيعابها.
وفي بؤرة تطور المجال واختراقه لحواجز البث التكنولوجي والانتشار المتسارع للشبكات الإعلامية والثقافية والاجتماعية، صارت الأغلبية المتأخرة متساوقة ومتطلبات العصر الجديد، وصار من السهل الحكم على الانتشار إياه، يأخذ أبعادا، خصوصا في بنية اقتصاد الهواتف المتنقلة، التي أضحت تغزو العالم الثالث بشكل مخيف، يسائل مصير قلقنا المشروع حيال بروز مشكلات «عدم المساواة البنيوية في مجتمع الشبكة».
وصورة عكسية متباينة، حيث يعيش مجتمع الرفاهية في العالم الآخر، وضعا أقل توجسا وتعاندا، حيث تنحصر استعمالات الشبكة في الحدود المعقولة للترفيه والتسلية وملء الوقت الفارغ، رغم امتلاكها لأدوات الترديد والتعبئة، حيث إن عددا منها يعيش عبر مسافات نائية على إيقاع استخدام علاقاته وفق أساليب الحياة المتنقلة، وبمهارات تتقاطع فيها درجات التعلق والتفاعل والاكتراث.
صحيح أن الفضاءين، يختلفان في معايير مركزية تحليل مثل هذه الظواهر، فنوازع تبيين الشبكة في الأولى غيرها في الثانية، وهما معا يشكلان علامات استقطاب وتداخل كبيرين، ويحيلان على مديات تنظيمية وقيمية متقاطعة، كما هو الشأن بالنسبة لقياس درجات الاحتكار والقابلية، ووقوعهما ضمن مفاهيم معقدة في «الاقتصاديات الرأسمالية» مثلا، والتي تحتاج منا وقفة ليس هذا وقتها.
ولعل أكثر التحليلات معقولية وابتداعا، ما ذهبت إليه نظيرة تأثير قانون القوة (تأثير ماثيو)، التي تشير إلى أن «التوزيع الذي يوجد به عدد صغير من الجهات الفاعلة التي لها روابط قليلة فقط، غير متكافئ يزداد عادة في الشبكات، ما يزيد الأثرياء ثراء»*
ومن الإنصاف إعادة تجسيد مقولة ابن خلدون التي تشير إلى أن أطوار البناء البشري تقوم على أضلع خمسة بثلاثة أجيال فقط. فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطى الجيل الأول من التقليد وعدم التجديد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، في تقاطعها مع (تأثير ماثيو)، مع التمييز المنهجي لمفهوم «الجيلية» وعلاماتها واستتباعاتها في بنية المجتمع القديم والحديث.