الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .
لا تغرد العصافير حبا في جمال أعيننا و آذنينا . إنها تغرد لأجل رسم حدودها و الإعلام بحضورها أو دعوة ذكورها لإناثها أو إناثها لذكورها … لكن يظل الاعتقاد راسخا أن العصافير تغرد لأجلنا و الأزهار تتفتح لأجلنا .. اعتقاد يحمله الإنسان منذ قرون عديدة مبني على فكرة كونه سيد الطبيعة . إنه الكائن العاقل الوحيد و الكائن المتكلم الوحيد و الكائن المفكر الوحيد في مجموع الموجودات الطبيعة .
هكذا عاش الإنسان منذ بدأ اليونان إرساء التفكير في ماهيته ككائن عاقل ، و استمر الأمر إلى حدود عصر الأنوار الذي رفع من قيمة الإنسان على جميع المستويات . لقد جعلت فكرة سيادة الإنسان على الطبيعة من الفعل الإنساني تجاه الطبيعة فعل قهر لجبورتها وعمى طبيعتها ، و فعل استنزاف دائم لقواها . قهر الطبيعة و ترويضها و إخضاعها للرغبات و الحاجيات الإنسانية ظلت الهدف الأكبر للإختراعات العلمية و النزوات الاقتصادية والنجاحات السياسية .
لكن فرحة السيادة ليست خالدة . سيتعرض الإنسان السيد لصدمة كبرى حينما سيكتشف أن وجوده في الطبيعة ليس وجود سيادة و لكن وجود تضمن . ليست الطبيعة امتدادا أو وجودا خاما أو منبسطا غير منظم ، بل عكس هذا إنها نظام متسلسل في صيغة نسقية ، و كل ضرر يلحق بعنصر فيها تتداعى له العناصر الأخرى . هذا النظام المتسلسل و المنظم و المعقد لا يوجد الإنسان خارجه، بل إنه حلقة صغيرة من حلقاته . ذاك هو أهم اكتشافات القرن السابق غير المسبوقة و الذي تم تقعيده في علم خاص هو “ علم البيئة “écologie
و موضوعه العام هو « النسق البيئي»éco-systéme. سيقلب هذا الاكتشاف علاقة الإنسان بالطبيعة رأسا على عقب . لقد أصبح الإنسان عنصرا حيا ضمن نسق بيئي متشابك من العناصر الحية الأخرى ، و وجوده أصبح رهينا بوجود هته العناصر ، مثلما أن جودة و أمن وجوده أصبحتا رهينتين بجودة و أمن و جودها . حقيقة علمية صادمة . حرم الإنسان من وهمه القديم الماثل في كونه هو من يهب الحياة للطبيعة عبر أنسنتها وتذويب توحشها ، مثلما سيحرم من وضعه ككائن تدين له باقي الكائنات بالاستمرارية في الحياة ، و معها ككائن سيد مالك للعقل و الفكر .و سيتحول إلى كائن مدرج في أعلى هرم سلم المخاطر. فهته الأخيرة لم تعد تخص بلد دون الآخر ، و لا تعتمد في من تصيب أو لا تصيب معايير التقدم التكنولوجي أو الإقتصادي .. و معايير القوة و الضعف ، بل إنها تخرج من البحر أو تنزل من السماء أو تحصل في البر بعنف لا يمكن صد خسائره المادية و البشرية . مثلما لم تعد ، أي المخاطر ، قطرية أو محلية ، بل كوكبية planétaire . فكل ضرر يلحق الغابات ، أو يفضي إلى انقراض كائنات حية أو حشرات صغيرة أويلوث الهواء أو يميت خصوبة التربة … في قطر ما تكون لواحقه ممتدة في الزمن لتشمل الحياة في الكوكب ككل . نتيجة كل ذلك و نتيجة اتساع الفعل المدني المشتغل على موضوعة البيئة في العالم كله ، و نتيجة الدلائل التي أصبحت تقدمها الطبيعة بتواتر سريع (زلازل و حرائق و فياضانات و تصحر و جفاف و تلوث و ارتفاع درجات الحرارة و ندرة المياه …) أصبح الكائن الذي خلعت سيادته يحس و يدرك أن وجوده في خطر ، و أصبح من انشغالاته الحالية البحث عن كوكب آخر يأويه . إن العصافير تغرد الآن لا لتثبت فقط حضورها و حرمة إقامتها .. بل لتقول لنا إننا سائرون جميعا ، و قبل الأوان ، إلى الجحيم .