صيدلية الأفكار -15- الماء و الجنون في الثقافة الغربية

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

 

سفينة الحمقى ، هو العنوان الذي منحه ميشال فوكو للفصل الأول من كتابه « تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» . و ضمنه يعرج بدء على البنيات السفلى التي ستؤطر علاقة الثقافة الغربية بالجنون و المجانين . بنية سيؤثثها أولا حدث انتشار الجذام في أوروبا و اختفائه . و بعده حلول الأمراض التناسلية محل الجذام . لقد انتشرت هته الأمراض فجأة في القرن الخامس عشر كما لو أنها تفعل ذلك بحكم الحق الوراثي . استطاعت الأمراض التناسلية ، تحت تأثير عالم الحجز كما تم في القرن السابع عشر، أن تنفصل عن سياقها الطبي لكي تصبح جزءا من عالم الجنون و ضمن فضاء أخلاقي للإقصاء . و في الواقع لا يجب البحث عن الميراث الحقيقي للجذام في هذه الواقعة ، بل يجب البحث عنه في ظاهرة أشد تعقيدا لم يكتشفها الطب إلا بعد جهد جهيد.يتعلق الأمر بظاهرة الجنون .اكتشاف الجنون مع عصر النهضة ، سيرافقه ظهور موضوع جديد في متخيل عصر النهضة . يتعلق الأمر بسفينة المجانين . سفينة غريبة جانحة تنساب في الأنهار الهادئة .سفينة المجانين أو الحمقى لفها خيال كبير ، لكنها سفينة لها وجود حقيقي . فالسفن التي كانت تنقل حمولتها الجنونية من مدينة إلى أخرى وجدت حقا .
ذاك ما يفسر الحمولة الدلالية القوية لإبحار المجانين . فالإبحار يسلم الإنسان إلى قدر غير محدد ، كل إنسان يسلم نفسه إلى قدره. و كل رحيل هو بالقوة آخر رحلة . ففي اتجاه العالم الآخر ، يسير المجنون على ظهر زورق أحمق ، و من العالم الآخر يأتي عندما يحط الرحال. إن إبحار المجنون هذا ، هو في الوقت ذاته تمييز صارم و انتقال مطلق . إنه لا يقوم ، بمعنى من المعاني ، سوى بتطوير الوضعية الاستهلالية للمجنون ، ضمن جغرافية شبه واقعية و شبه متخيلة ، عند إنسان القرون الوسطى . إنها وضعية رمزية تحققت من خلال الامتياز الذي يحظى به المجنون باعتباره محجوزا على أبواب المدينة : إقصاؤه هو الذي يقوده غلى الحجز. فإذا كان لا يستطيع و لا يريد سوى سجن آخر غير العتبة ذاتها ، فإنه يبقى في حدود فضاء المرور. إنه موضوع داخل الخارج و العكس صحيح. إنها وضعية بالغة الرمزية و ستظل هكذا إلى يومنا هذا ، إذا كان بإمكاننا الاعتراف أن ما كان يشكل قديما قلعة مرثية للنظام ، قد تحول الآن إلى صرح لضميرنا . و قد لعب الإبحار و الماء هذا الدور . فالمجنون المحتجز داخل مركب لا يستطيع فكاكا منه ، قد سلم أمره لنهر ذي الأذرع المتعددة ، و إلى الماء ذي السبل المتعددة ، إنه يسلم نفسه غلى عالم اللايقين الرهيب الموجود خارج كل شيء . إنه مسجون ضمن السبل الأكثر حرية و الأكثر انفتاحا: إنه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية .إنه بؤرة المرور بامتياز، أي أسير العبور . و الأرض التي سيحط فيها تجهل عنه كل شيء ، تماما كما لا تعرف اليابسة التي تطؤها أرجله من أي أرض هو آت . فلا حقيقة له و لا وطن له غلا في ذلك الامتداد الخصب بين البراري التي لا يمكنه الانتماء إليها . فهل يشكل هذا الطقس ، من خلال هذه القيم ، أصل ذاك الترابط المخيالي الذي يمكن تتبعه في الثقافة الغربية كلها ؟ أم أن العكس هو الصحيح ؟ هل هذا الترابط هو الذي استدعى طقس الرحيل و رسخه منذ زمن بعيد ؟ هنالك شيء ثابت على الأقل : ترابط الماء و الجنون في ذاكرة الإنسان الأوروبي .
ذاك هو رأي فوكو بالحرف في التعالق الغريب بين الماء و الإبحار و الجنون في الثقافة الغربية في زمنها الكلاسيكي ، و ذاك أيضا هو أسلوب فوكو الشاعري في تناوله للجنون ، أسلوب بقدر ما ثمن تحفته الفكرية هته بقدر ما جر عليه انتقادات عدة ، خصوصا من طرف الأكاديميين . فمؤلفه هذا هو أصلا أطروحة دكتوراه ، و هو عمله الأول . لكن لم يفوت فوكو الفرصة ، بل انتظر صدور عمله « أركيولوجيا المعرفة» ، ليصرخ في وجوههم :» لا تسألوني من أنا ، و لا تقولوا لي أن أظل كما أنا : إنها أخلاق الحالة المدنية التي تنظم أوراق هويتنا . لتتركوننا أحرارا حينما يتعلق الأمر بالكتابة «.


الكاتب : نورالدين الزاهي

  

بتاريخ : 08/04/2023