الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .
يستعيد مارتن هايدغر في كتابه “ ما الشيء “ ، حادثة يونانية صغيرة وقعت في أثينا تعرض لها الفلكي طاليس (ليس أرسطو طاليس) . فبينما كان طاليس يتجول في أثينا ، و يمشي كعادته محدقا في السماء ، سقط في حفرة ، فضحكت منه خادمة طرسوس (أحد أسياد المدينة ) . ضحكة الخادمة شغلها هيدغر بوصفها ضحكة اليومي من العالم ، ضحكة ممن يرمون بعقولهم في السماء و لا ينظرون إلى ما يوجد بالقرب منهم و تحت أقدامهم . ضحكة عبد الله العروي من هذا الصنف . ضحكة من الباحثين و العلماء الذين عوض أن يطلعوا على مؤلفاته المتواجدة في جل إن لم نقل في كل المكتبات المغربية و العربية ، أي بالقرب منهم و من أقدامهم ، يفضلون الحديث عنه بما يجول في خواطرهم و عقولهم . ضحكة عبد الله العروي الأولى ، في حدود علمي ، و التي حكى عنها بنفسه في إحدى المناسبات تقول ، أنه ذات يوم كان ماشيا في شارع محمد الخامس بالرباط ، فأوقفه احد الأساتذة الجامعيين ، من جامعة مغربية أخرى ، وقدم له التحية ، ثم قال له باللغة الدارجة “ شحال هذي أسي عبد الله ما كتبتي لينا شي حاجة “ . كان العروي ، و حسب لسانه ، قد أصدر قبل أسبوع أو أسبوعين مؤلفه “ مفهوم العقل” ، أجابه العروي يبدو يا سيدي أنك شحال هذي ما قريتي “ . ضحكة عبد الله العروي الثانية ، حديثة و مكتومة ، مبعثها ما كتبه عبد الله حمودي مؤخرا ، و أصدره ضمن مؤلفه “ ما قبل الحداثة “ . يقول عبد الله حمودي بالحرف في الصفحة 11 :” إن الرجوع إلى “ ما قبل الحداثة “ كما حاولت في هذا الكتاب ، ينبني على نظرية النقد المزدوج كما طورتها على أساس ما أتى به عبد الله العروي و عبد الكبير الخطيبي .” لنترك جانبا في هذا المقام الصغير حسرة المرحوم الخطيبي جانبا ، و هو ينصت للجملة و هي تعلن أن صاحبها طور نظرية النقد المزدوج، و أن صاحب و مبدع النقد المزدوج ليس سوى مرجع داعم لهاته النظرية ؟؟؟ و لنركز على مدلول مساهمة عبد الله العروي في بلورة نظرية النقد المزدوج الجديدة لعبد الله حمودي. هل يمكن بأي حال من الأحوال ، و كيفما كانت التأويلات و القراءات ، أن يكون عبد الله العروي ، سندا و دعما و مرجعا لبلورة نظرية في النقد المزدوج ، سواء كما بلورها عبد الكبير الخطيبي أو كما سيجترها عبد الله حمودي ؟
أطروحة عبد الله العروي الكبرى ، و المعروضة بكامل الدقة في مؤلفاته و محاضراته العمومية و الخاصة بطلبته ، واضحة جدا ، بسسب أن عبد الله العروي دقيق في عرضها ، و صارم في بلورتها ومتابعة تفرعاتها و تشعباتها . لقد ظل عبد الله العروي ، و لازال ، صاحب اختيار فلسفي ( الحداثة بدل التقليد )، فهل سيكون سندا لدعوى “ ما قبل الحدثة برمزها العربي “ البيروني “ ؟ و صاحب اختيار نظري ( التاريخانية بوصفها ثبوتا في قوانيين التقدم التاريخي في اتجاهه من الماضي نحو المستقبل و إمكانية لاقتباس ثقافة و فكر الآخر بحكم وحدة الجنس البشري و فعالية المثقف و السياسي في إنجاز الطفرة و اقتصاد الزمن ) ، و صاحب اختيار منهجي ( العقلانية العلمية المعتمدة على التجربة و الاستقراء ) و صاحب اختيار فكري ( تعرية عوائق التحديث السياسي و المجتمعي ) . مشروع متكامل . اختيار الحداثة ، حسب العروي ، لا تجزيئ فيه و لا تقسيم فيه بين ما ينتمي لأسسها الفلسفية و القيمية و ما ينتمي إلى منتجاتها التقنية (عكس كل السلفيات ). و المجتمعات العربية لا يمكنها أن تقفز فوق الحداثة لأنها قدرها الذي لا فكاك منه . التحول نحو الحداثة يتطلب حضورها في العمق ، أي على مستوى الدولة و المجتمع . مجتمع يبتعد في تعليمه و سلوكات أفراده عن المعتقدات الغيبية و التقليدية ، و يقطع مع منح الأولوية للإسم على الفعل لغة و سلوكا . مجتمع يرفع كل ما يعيق تحرير الفرد من مختلف التبعيات السياسية و الاجتماعية و العشائرية و الفكرية و كل ما يعيق حرياته المدنية و السياسية في الواقع . اختيار الحداثة و القطع مع التقليد ، حسب عبد الله العروي ، هو اختيار الطريق الذي ليس من دونه بد : الطريق الذي سارت فيه المجتمعات الإنسانية. يقول العروي ، سيتعرض هذا الاختبار لمقاومات كثيرة ، لكن من دونه سنظل نقول كل شيء إلا ما يهم حاضرنا و مستقبلنا.
مشروع واضح لا ضبابية أو ترددات فيه . و سواء اختلفنا معه أو اتفقنا ، علينا من باب الأخلاق السامية بذل الجهد لتملكه كما هو معروض في ما كتبه صاحبه ، وفيما حاضر لأجل بيانه و رفع سوء فهمه لدى البعض.و إلا ستهز كياننا ضحكته الثالثة .