صيدلية الأفكار -25- نقط على الحروف

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

 

عمود المرحوم أحمد السطاتي الذي ظل يزين جريدة الاتحاد الاشتراكي لسنوات ، ببهاء لغته و عمق أفكاره و سلاسة استرساله . عمود ظل و لازال، في رأيي على الأقل ، عميدا للأعمدة الصحفية .لأولئك الذين لم يسعفهم الزمن كي يتذوقوا طعم حروفه ،و يبصروا جلالة و هيبة نقطه ، أقدم لكم هدية العيد . أحمد السطاتي يضع نقطه على الحروف ، فقط هته المرة ليس على صفحة الجريدة
“يمكن أن يشكل الدرس الفلسفي بالنسبة للمبتدئ صدمة حادة كما يمكن أن يشكل فسحة ماتحة و مفيدة . الشارب منه قد يغص به و قد يستسيغه تبعا لأسلوب التعاطي و المقاربة كما جاء في رد ابن رشد على الإمام الغزالي …قد يجد فيه المرء ضالته كما قد يجد فيه ضلاله .، يمكن أن يقربه من محيطه كما يمكن أن يقصيه عن ذاته و ينفيه عن محيطه ، و لذلك يظل السؤال حول درس الفلسفة و تدريسها قائما و مشروعا . ما ذا نريد منها ؟ و ما ذا نريد بها ؟
يعتقد كثير من الناس أن الفلسفة بمواضيعها و لغتها خطاب مخصوص لجماعة مخصوصة ،تقع الإشادة بها على أنها معرفة أرقى تتأتى بطبيعتها على المحسوس و الجزئي و توافه المعيش لتغوص في عالم الكلي المعقول و المطلق بعيدا عن شوائب الحس و التجربة . و يعتقد الآخرون أن الفلسفة حينما تفارق الملموس و تتعالى عن المعاناة اليومية لعموم الناس إنما تمارس تجوالا و تسكعا في فضاءات ميتافيزيقية غائمة لا طائل من ورائها .يجوز أن تعرف ما لانعرف لكنها تجهل ما نعرف أو تتجاهله في أحسن الأحوال . و صفوة القول من أولئك أو هؤلاء إن الفلسفة إما ترف فكري أو عبث فكري .
و مع كل ما يقال عن ترف الفلسفة أو عبثها فنحن لا نفلت من قبضتها في جميع الأحوال . حياتنا اليومية بكل همومها و ضغوطاتها نشعر معها في لحظات من التروي و التدبر بنبض ميتافيزيقي يدق في الأعماق ، فكثير من القيم الثابتة و المطلقة التي تشكل أفق الرأي و الرؤية و تؤطر السلوك ترسو ، إن حفرنا في تربتها ، على قواعد ميتافيزيقية صلبة .حتى العلم الذي نفاخر به زماننا ، و معه التقنية و كل أشكال الحداثة ، إنما هي تعبير عن البعد الميتافيزيقي لعالمنا المعاصر . و معظم القيم التي ندعو لها أو نبشر بها أو نعيش بها و نعيش لها لا تخلو من بطانة ميتافيزيقية تغشاها و تتلبس بها. كل حياة ماضية أو مقبلة لا تخلو من معنى يسكنها و تسكنه .
قد ينتابنا في لحظة من لحظات الوعي الشقي و الحاد إحساس بأن الحياة خالية من أي معنى ، و أن اللامعنى هو الحقيقة الثابتة ، لكن سرعان ما نشرع في طرد هذا الإحساس الراعب و نسعى إلى توليد معان جديدة و بديلة نرتاح لها ، و الجهد الفلسفي يجد فعاليته و مشروعيته في خلق ذائب لمعان تحاول أن يؤكد من خلاها جدارة الإنسان كصانع لكثير من المعاني و القيم بدل أن يظل صنيعتها و حسب .” أحمد السطاتي .
على هذا المنوال و بنفس الأسلوب كان سي أحمد السطاتي ينقش نقطه على الحروف .حروف لن تفقد يوما بهاءها وعمق و هدوء مراسيلها لغة و أفكارا و تنويرا . لترحم روحك كل الأرواح الطيبة .

انتهى


الكاتب : نورالدين الزاهي

  

بتاريخ : 20/04/2023