طبيعة الشخصيات في رواية «أراجيف» للأزهر الصحراوي

 

«أراجيف» ، عنوان من عناوين الأزهر الصحراوي الروائية ، الحاصل على جائزة الاكتشاف ضمن مسابقة الكومار ، صدرت عن سلسلة ««يحكى أن …» عن دار ورقة للنشر ، في طبعة من الحجم المتوسط ، وتزين غلافها لوحة تشكيلية بدون توقيع .
انطلاقا من العنوان الذي يعني “ الأخبار الكاذبة “، ومن التصدير الذي جاء من سورة النمل – 50 : “ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ، وكذلك الاهداء “ إلى محمد البوعزيزي شمعة اشتعلت لتنير عتمة الوطن “، نكون أمام مفارقة ، حيث الكذب والمكر في مواجهة النور الذي يوحي بالضياء والكشف والفضح .
وعليه ، تكون العتبات إفشاء لسر النص الروائي ، ومن ثم ، برمجة المتلقي لاستقبال مواجهة وصراع بين ثنائية ضدين ، وعالمين متضادين ، عالم الدهاء والدجل والعهارة ، ويمثلها كل من “ أبو زبلة ، الشوافة سجاح ، سليمان الوسلاتي وهدى ثم وسيلة “، وعالم الاكتشاف والتعرية للمسارب الخفية “ يونس “ ، تعبيرا عما هو فكري وسياسي وواقعي، بالإضافة الى الأسئلة المرتبطة بالذات وكينونة الإنسان في علاقاته المختلفة والملتبسة ، نتيجة واقع موبوء ومترد، يتسم باللامنطق والفساد والإفساد، لتوصيفه والتعالي عليه، وإنتاج أدوات للكشف عن مكامنه وتشخيصها .

تحكي رواية “ أراجيف “ عن “ يونس “ الطالب الجامعي الذي يشتغل معلما بمدرسة “ أم العبيد “، والذي ارتأى أن يوجه بوصلة النضال من الحرم الجامعي إلى قريته لمواجهة دهاقنة الاستغلال والوصولية والدجل “ أبوزبلة، الشوافة، الوسلاتي، هذه المواجهة التي ستكلفه السجن :” كنت معلما أدرس في قريتي ، فخسرت وظيفتي لأني سجنت دفاعا عن الأرض الذي أنبتتني “ .ص 5
وتستمر مواجهة يونس الطرايدي لهذا الثالوث حتى بعد خروجه من السجن، وبدل المواجهة المباشرة وتجييش الساكنة، يلج السارد الشخصية ، إلى سيناريو الفضح عبر كشوفات أراجيفهم وأوهامهم التي حولتهم إلى أخاطيب .
هكذا، تضعنا الرواية أمام مجموعة من الأحداث والوقائع وشبكات أذرع الفساد التي تنخر قرية “ أم العبيد “ كما الأورام الخبيثة امتدت في كل خلاياها، فساد دفع الذات النخبوية المناضلة، إلى المواجهة من أجل الكشف والتغيير والفضح، لتكون الشخصية الوحيدة الناضجة والمبدئية ضد هذا الفساد والإفساد، شخصية متشظية بين عنف الواقع وحدة المعاناة في مواجهة الدجل،وبين الحلم في تغيير الواقع وخدمة الفقراء . شخصية مهيمنة تحمل اسم “ يونس الطرايدي “، نعرفه بضمير المتكلم حين يتحدث عن نفسه :” طموحي كان زعامة المزارعين وتنظيم صفوفهم، غير أن الظروف قهرتني وقصمت ظهري، وأنا سعيد بهذا المآل “ ص 6 ، وبضمير المخاطب حين توجه الكلام لشخصية أخرى، شاب مثقف، خريج الجامعة التونسية وكاتب للرواية :” إنك صدمتني يا يونس فحمدت الله لأني لم أتزوجك وتزوجت والد ابني فترك لي مالا وفيرا، سيكون هذا التنبيه الأخير الشفوي الأخير . عليك أن ترجع الأوراق التي أخذتها من مكتبه كاملة ، يجب أن تزيل من ذهنك فكرة فضحه في كتاب تنشره “ ص229 ، كما يحضر من خلال علاقاته النسوية مع كل من “ وسيلة “ و” هدى “.
يونس الذي يقطف الجمر، ويمد يده ليفعل، ويقف موقفا مختلفا، ويحارب كل من خولت له نفسه تحويل قرية “ أم العبيد “ إلى نابذة لمواطنيها، مما يجعل منه شخصية موزعة بين وظائف عديدة ، وظيفة الكشف والإخبار، ثم وظيفة إيديولوجية تنحاز إنسانيا وإبداعيا إلى فقراء ومهمشي القرية .
يتجلى ملمح الإخبار والكشف عن المسارب الخفية والقابعة في مناطق مجهولة لكل من “ أبو زبلة “، والوسلاتي، والشوافة “ ، رمز الأكاذيب والأوهام ، من دون الخضوع لأية مساومات، وللذهنيات السائدة أو الانسحاب ، رغم التهم الملفقة ضده لإخماده :” تهمتي : صناعة الأراجيف وترويج الإشاعات وتحريض العروش على أمن الذولة في القرى المتاخمة لنفزة ؟ ص5
وعليه، يكون ماضي “ أبو زبلة الذي “ خلق بالأوهام والأكاذيب تاريخا لنفسه ، فارتقى من راعي حقير إلى شخصية وطنية محترمة، حظيت بسطر أو سطرين في تاريخ الحركة الوطنية “ ص46، كله تاريخ ملفق ، درجة السخرية منه بشكل لاذع، حتى أن سجنه في جزيرة “ جالطة “ مع ثلة من السياسيين المحترفين، لم يكن إلا صدفة، وهو يتغوط بفعل إدمانه “ الهندي “ تحت الجسر ، :”و يبدو أن دورية من جنود فرنسا بلغتها أخبار كاذبة عن خطة لتفجير الجسر في تلك الساعة لقطع الطريق الرابطة بين تونس والجزائر على جنود فرنسا ، أو أنها كانت تطارد مسلحا تسلل بين الأحراش واختفى عن أبصارهم فجاؤوا الى ذلك المكان في تلك اللحظة بالذات ولم تمض. ص 43
تحضر الشوافة « سجاح»ويحضر معها الدجل وترويج الخرافة لخدمة مصالحها أولا ، ولخدمة كل المتآمرين على محو « أم العبيد «. فهي لسان حالهم، ووسيلتهم الإعلامية لإذاعة مخططاتهم وتهييء الناس لاستقبال مخططهم الذي يتغيا محزر « أم العبيد « ذاكرة وتاريخا، وإقامة بدلها سدا لاستغلال ثروتها المائية.
أما الشخصية الثالثة ، فالوسلاتي مدير مدرسة « أم العبيد «، واحد من دهاقنة الاستغلال والوصولية، داهية ، وحربائي ، بدا منحازا منذ البدء إلى فقراء القرية وكادحيها ومهمشيها، لكنه انحياز مدبر ومغشوش، يخفي وراءه فائض قيمة من الخداع والمكر :» يجب أن أخطط لإتمام المهمة فليس الخوف هنا من الأموات بل من الأحياء، يجب أن أعاين الموقع في القريب العاجل لأرفع تقريرا مفصلا. سأتخلص من المهنة الشاقة، وسأقطع سلاسل الفقر إلى غير رجعة. سيحولني الكنز من معلم دمرته الأرياف إلى ثري لا تحصى أملاكه « ص62، وهذا ما تكشف عن أوراقه التي عثر عليها “ يونس” بعد موته .
أما “ سليمان “ شقيق “ وسيلة “، فصناعة لورشة “ أبو زبلة “، وماركة بشرية مركبة ومعطوبة، أعطاب جعلته يدمن تعاطي الكحوليات الروحية ، وفي نفس الآن ، يفقد كرامته حتى، سواء في علاقته بهدى التي تتقن لعبة إذلاله وخيانته، أم من خلال اغتصابه من قبل “ أبو متعب”، ليحتج أولا ، وليتقبل الشيك ثانيا :” لما التقيت الهندي سلمني ظرفا، وودعني باسما، وحينما فتحته وجدت صكا بنكيا بألفي دينار “ ص198، وحين تتفاقم الألغام وخيانات “ هدى “ ، يختار أخيرا تفجيرها بالعراق، بعض انضمامه للمجاهدين، عقب سقوط النظام البعثي بالرافدين .
أما “هدى” و”وسيلة”، فتمثلان نموذج العلاقة الوثيقة بالجسد الآخر، فهو جسد مستغل ومستغل ، مستثمر ومستثمر، فهدى مثلا استغلها المحامي جسديا وافتض بكارتها ، لكنها هي أيضا مستغلة لسالم ، وبذلك تكون مثالا للجسد التائه الضال .
في حين توحي شخصية “ سيدي مبارك “، باستثمار ظاهرة الموت والقتل والتنكيل من أجل تدعيم الشرعية ومزيد مراقبة السكان وخلق لفيف من الحلفاء، سواء في ممارسة السلطة لمشروعية احتكارها للعنف، أو في إرهاب الخصوم.
وعليه، تكون الشخصيات قد أدت وظيفتها الإيديولوجية بتمرير السارد الشخصية من خلالها مجموعة من المواقف والاختيارات التي تهدف إلى شحن المسرود له وتحفيزه للمواجهة والتموقف مما يقع ، ومن ثم ، الانحياز إنسانيا وإبداعيا إلى ساكنة « أم العبيد « الذين تدور عليهم الرحى دون شفقة .
إذا وقفنا وقفة سريعة، نجد كل هذه الشخصيات لا تختلف في العمق كونها شخصيات تحترف الكذب، التيمة الرئيسية المهيمنة في الرواية، كذب بوجوه متعددة لوجه واحد، هو موت الإنسان والطريق إلى الوطن بأعماق هذه الشخصيات المتصالحة مع مصالحها الانتهازية، كذب يكاد تمارسه كل شخصيات « أراجيف» ، من تزييف للحقائق أو خلق روايات وأحداث جديدة، بنية الخداع لتحقيق كثير من الأهداف المادية والنفسية والاجتماعية المقترنة بالغش والخداع .
ونستطيع في الأخير أن نخرج من قراءة رواية « أراجيف «، ببعض الخلاصات نجملها في كون القاص والروائي « الأزهر الصحراوي «، وضع يده على ظاهرة اجتماعية وسياسية استشرت كما الأفيون، من أجل تفكيكها وتقشيرها والتي لم ينتبه إليها ، وهي ظاهرة الكذب وتلفيق الأوهام وترويجها لغاية في نفوس الضمائر الخائبة، ولعل ذكاء « الأزهر « وتمرسه بالحكي، جعله يلقي القبض على هذه الظاهرة التي مازالت تختال مرحا في مشهدنا الثقافي والسياسي، ويرتفع بها من المسكوت عنه إلى المفكر فيه إبداعيا وجماليا ، ليتورط بدوره في الكذب والأراجيف، لكنه كذب سردي أبيض، لأن الرواية أولا وأخيرا ليست إلا كذبة بلقاء ناصعة وماتعة وتسر القارئين .


الكاتب : عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 19/09/2020