طلائعية التعدد والاختلاف في عمل التشكيلي الراحل محمد الباز

 

توفي مؤخرا، في صمت، أحد الفنانين التشكيليين المغاربة المعاصرين وهو «محمد الباز»، حيث يعتبر من المبدعين الأساسيين في المشهد الفني، نظرا لتجربته المتميزة التي ترتكز على طرح أسئلة جوهرية تدخل نطاق التجريب والبحث في الثقافة المغربية بما تحمله من رؤى فلسفية ووجودية. وكانت آخر مناسبة جمعتني بهذا الفنان بمراكش مرتبطة بذكرى تأبينية للفنان الراحل هو الآخر «فريد بلكاهية»، فكانت هذه المناسبة بدعم من المجمع الشريف للفوسفاط، وفي إطار كارت بلانش، حيث عرف فضاء مؤسسة فريد بلكاهية يوم 20 أكتوبر 2018 في الساعة الخامسة مساء بمراكش، تظاهرة فنية بحضور عدد من المثقفين والفنانين ووسائل الإعلام، تضمنت تجهيزات من إبداع الفنان المغربي محمد الباز بأمكنة متعددة بعدما أن سلمت له بطاقة بيضاء لتحقيق هذا المشروع بمساعدة ، حيث عمل محمد الباز على اختيار الأمكنة المناسبة لإنجاز عمله بهذا الفضاء، معتمدا على تحقيق مشروعه من زوايا مختلفة تعددت فيها الرؤى بطريقة فلسفية تقاطعت في فكرة موحدة مرتبطة بما هو وجودي في علاقة الإنسان بالحياة والموت، في قالب فني يدعو لتساؤلات مرتبطة بأصل الوجود، انطلاقا من عمل أنجز فوق تلة اصطناعية مطلة على فضاءات لامتناهية حيث لا حدود للعين، نحو أفق تملؤه الطبيعة بعشبها وأشجارها…، بما تمليه عليه من أفكار، نصب فوقها شجرة فولاذية ترخي سدولها على أرضية التلة، بصمودها  وبصلابتها رمزا للشجرة الأبدية، ضمن تقابلات زئبقية يتخذ فيها الضوء والعتمة تناوبا زمنيا يختلف حسب اختلاف الليل والنهار، كإحالة على عدم دوام الصيرورة، التي يفرضها الحضور والغياب بمنطق التضاد بين الحياة والموت معا، وشاهدة على حدث فني اتخذ فيه الفنان موقع المتأمل في الطبيعة والمحيط بتساؤلات غيبية اجتمع فيها الشعور والإحساس بما هو مادي، كمرحلة أولى، واتخذت من الفولاذ مادة للإنجاز عبر سفر ذهني كمحطة أولى للتأمل والإنصات  للطبيعة، وما تخفيه مما يرى وما لا يرى، وما تمليه من أفكار تسبح في مخيال المبدع.
وفي حديث مع الفنان محمد الباز، ثبت على هامش ما يمكن أن تخوله هذه الشجرة (التحفة) هي تأويلات متعددة حسب مرجعية كل متلقي، إذ أن صياغة ومعالجة هذه الأيقونة كان رهانا أنجبته في ما قبل تجربة الفنان (موندريون) في سياق مختلف جعل من الشجرة الرمادية موضوعة للعبور من التجريدية الغنائية إلى التجريدية الهندسية، بينما كان إنجاز الشجرة الفولاذية عند الباز نوعا من التكريم للفنان فريد بلكاهية، الذي اشتغل بدوره على تيمة الشجرة، انطلاقا من زاوية طلائعية، كتحد واجهه عند توليه مسؤولية مدير مدرسة الفنون الجميلة مباشرة بعد الاستقلال، على حد قول رفيقة دربه السيدة (رجاء بنشمسي)، لذلك انصب اهتمام الفنان محمد الباز على تيمة الشجرة كامتداد لهذه الفكرة.
أما المحطة الثانية في هذه التظاهرة التشكيلية بمؤسسة بلكاهية، فكانت بديوان المجالس، لأجل استعادة أجواء عمل الفنان والفيلسوف العالمي الراحل (كانتور)، حيث قدم الفنان محمد الباز كتجهيز، عملا موسوما ب «قسم الموت والحياة» وهو عبارة عن فضاء دائري تتوسطه طاولات خشبية وتحيط به صور رقمية من سماء منطقة تحناوت الزرقاء الصافية، وتعلوها عيون حمراء دامية، مع مصاحبة لصوت طفلة تردد الحروف الهجائية باللغة العربية دون انقطاع، ليجعل الفنان من الصوت هو الآخر عنصرا فاعلا ومكملا لهذا العمل، الذي جعل من فكرة الحياة والموت مطية لطرح أسئلة راهنة تتعلق بموت المنظومة التعليمية وإمكانية إصلاحها وإحيائها، كعمل إبداعي محرض على الاهتمام بالأسئلة الجوهرية المتعلقة بالفن التشكيلي من منظور حداثي وطلائعي في سياق عالمي، انطلاقا من أسئلة حارقة، تحمل هوية أو انتماء معينا، استنادا إلى تجربة هذا الفيلسوف العميقة، التي نتجت عن مخلفات نتائج الحرب العالمية الثانية وفظائعها.
ينتقل بنا محمد الباز إلى محطة ثالثة تختلف في الشكل وتحتفظ بالموضوع المشترك في هذه التجربة، بتقنية الفوتوغرافيا، وهي عبارة عن صورة للفنان الراحل (بلكاهية)، برأس مشتعلة، تعبيرا عن القلق الفني الذي راود الفنان بلكاهية في فترات معينة من تاريخه الإبداعي، هذا القلق الذي حاول من خلاله الفنان محمد الباز، أن يطرح بدوره أسئلة حداثية انطلاقا من ذاته ورؤيته للوجود في علاقته بالحياة والموت، لينهي هذه المنشآت أو التجهيزات (Installations ) بخريطة للمغرب، كمحطة رابعة، أنجزها بالجبص، كتوقيع غير مباشر على أهمية الانتماء.
إن المتأمل في هذه التجربة عبر محطاتها الأربعة، سيلاحظ تنوعا في استعمال التقنيات، والمواد، فمن الفولاذ إلى الخشب مرورا بالفوتوغرافيا والورق كسند وصولا إلى مادة الجبص، لكن رغم هذا الاختلاف الغني بمعطياته، يبقى الموضوع أو التيمة هي المحور والمحرك لهذه التجربة كمشروع يدعو للاهتمام بالتشكيل في أبعاد وسياقات حداثية ضمن نطاق وتوجه طلائعي «كما أشرنا لذلك»، يراهن على مستقبل الفن التشكيلي، في إطار التوجيه والاهتمام بالقضايا الكبرى التي تهم الإنسانية.
وبهذه المناسبة الأليمة، حرصت على الكتابة عن هذا الفنان، لما تمليه علينا تجاربه من اهتمام ومتابعة حتى لا تذهب جهوده سدى، ولتصبح أعماله رمزا لما يجب عليه تدوينه والاشتغال عليه من الفنانين والباحثين والنقاد، كتجربة شاهدة على زمنها وعلى قوة حضورها.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 25/06/2024