طنجة الدولية:اختبار فرضيتي التحول والتفاعل

مع اقتراب استحضار الذكرى المئوية لفرض نظام الحكم الدولي على مدينة طنجة، صدر هذه السنة (2025) كتاب حول المدينة للباحث المغربي نبيل الطويهري تحت عنوان: «طنجة الدولية: الاجتماع والمعمار والثقافة»، عن مكتبة دار السلام في حوالي 199 صفحة من الحجم المتوسط.
الكتاب من حيث اختياره المنهجي يقترح إجراء اختبار لفرضيتين أساسيتين: فرضية التحول وفرضية التفاعل.
في ما يتعلق بالأولى، يَنتصر الكتاب لحدوث «تحول» داخل المدينة خلال فترة الحكم الدولي؛ من مدينة وسيطية ظَلَّت تحمل معها روح «العصر الوسيط» نحو مدينة عصرية تَظهر عليها بعض ملامح «العصر الحديث».
جرى التحول وِفق منطق الكتاب من خلال نقل المدينة من «نسق عتيق» نحو «نسق حديث» جعل منها على امتداد فترة الحكم الدولي من 1923 إلى 1956م مركزًا دوليا اجتذب إليه المهتمين بالفكر والآداب والفنون في محيط محلي لم يندمج بعد في سياق التحول. وفي ما يتعلق بالفرضية الثانية، يَهتدي الكتاب إلى تحقق تفاعل ثلاثي جمع بين الاجتماع والمِعمار والثقافة داخل المدينة أضفى عليها صِفة «المدينة الكوسوموبوليتية».
لتنزيل هذه الرؤية، يَصيغ الكتاب إشكالات تاريخية تخدم الرؤية المنهجية. كيف تتأهل مدينة طنجة لأن تكون مُختبرًا من أجل إجراء قراءات جديدة تفيد فرضيتي التحول والتفاعل خلال الفترة التي وَصفها المؤرخون بالفترة الانتقالية؟ وكيف تنضبط تفاعلات الاجتماع والمِعمار والثقافة للإجابة عن إشكالية التحول والتفاعل داخل المدينة؟ وهل التوسل بهما يكفي لإطلاق صِفة «المدينة الكوسوموبوليتية» التي تلتقي فيها مظاهر الجمال بالقبح؟
في واقع الأمر، جرى تعقب هاتين الإشكاليتين من خلال تحليل المؤسسات الإدارية في فصل تمهيدي، والانتقال في مستوى ثانٍ نحو دراسة تحولات المشهد الحضري زمن الحضور الأوروبي في فصل أول، والعبور نحو دراسة تحولات البروليتاريا وأشكال التنظيم العمالي (تنظيم عمال الميناء Dockers) في فصل ثانٍ، مرورا بتحليل قطاعي التعليم والصحة في فصل ثالث، والختم بمعاينة قضية التحديث في المدينة مَنظورًا إليه من جوانبه الفنية والعلمية والفكرية في فصل رابع وأخير.
لأجل ذلك، نَشد الكتاب تقديم مَدخل جديد يقترح إعادة قراءة تحولات طنجة بالتركيز على تفاعلات المحلي فيها مع الدولي، الاجتماعي مع الثقافي…في طنجة جرى التحول سريعا عن بقية المدن المجاورة، وترددت في أصداء الصحافة المحلية نقاشات صاخبة حول التحول، وطُرحت قضية خروج المرأة إلى العمل مع ما استتبع النقاش من تحول بِنيوي وحاسم في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمدينة.
يتعلق الأمر، من وجهة نظر جغرافية بمدينة تُطل على بحرين. تأتَّى لها أن تستوي على موقع جغرافي فريد واستثنائي فتحها على واجهتين: متوسطية من الشمال، وأطلسية من الغرب. فكان من حظها أن برزت في تاريخ المغرب خلال فترة الحكم الدولي كمركز للبعثات الديبلوماسية من جهة، وقُطب اقتصادي جذاب للاستثمارات الأجنبية ومُنفتح على تأثيرات العالم المتوسطي من جهة ثانية، ومَحضن ثقافي تقام فيه الأنشطة التعليمية والثقافية من جهة ثالثة…
ارتقت المدينة مع الوقت إلى أن تحظى بخصوصية جد مُتميزة، في الاجتماع، في المعمار، وفي الثقافة…وبَدت مُتوشحة بخصوصية غير مألوفة، وخصوصيتها تستدعي أن تُقرأ في سلسلة الأوفاق والعهود التي أقرَّت ضرورة ذلك. يبدأ هذا المسار من الاتفاق الودي 1904، ويَمرُّ عبر معاهدة فاس 1912، ويَصل إلى الاتفاق الفرنسي الاسباني 27 نونبر 1912، ويَنتهي بتوقيع معاهدة التدويل في 18 دجنبر 1923 التي نصَّت على ثلاثة مبادئ كبرى: سيادة السلطان، حياد المنطقة والمساواة الاقتصادية. (ص 15).
عقب التحول، ستتحلل المدينة بالتدريج من رواسب التقليد المعيق وستتطلع نحو التحديث الأوروبي. من طنجة، سيعاين العالم ميلاد أولى التجارب الصحافية والفرق الرياضية والعروض الفنية التشكيلية، وتركزًا كثيفا لشبكة من المؤسسات الثقافية والخدماتية داخلها…طنجة صارت مدينة بأُفق رأسمالي، وواقعة تحت تأثير المضاربات العقارية وشراسة التنافس الاقتصادي بين نخبها الجدد. طبعا، لم يكن التحول رحيما بأهل طنجة وبُسطائها ومأجوريها من الإسبان. طُرحت خلال فترة الحكم الدولي قضايا اجتماعية تهم أزمة السكن، والتمييز في الأجور والحقوق والتمايزات في مورفولوجية التطور الحضري…وقد كان للهَوى الاشتراكي أن نَسَّم روح النضال داخلها، وجعل البروليتاريا الطنجية تطرح مسألة تخفيض ساعات العمل وتحسين الأجور كما رَدَّدت قصاصات أعداد جريدتي «الشعب» و»منبر الشعب» خلال تلك الفترة.
يَبتغي الباحث نبيل الطويهري بناء هَوية للمدينة خلال فترة الحكم الدولي. وهي في الحقيقة هَوية تَصهر الأبعاد المحلية مع التأثيرات الخارجية. ينصرف القصد هنا، إلى تجسير عملية الانتقال من العتيق إلى الحديث في تاريخ المغرب ككل. في طنجة، لا يتعلق الأمر بمدينة ذات تأثير محدود، بل بمدينة عابرة للحدود كما يهتدي إلى ذلك الباحث نبيل الطويهري…والقول بأنها مدينة مفتوحة هو في عمقه رد صريح على بعض الأطروحات الاستشراقية والكولونيالية التي سارت في اتجاه تبني فرضية انغلاق المدن المغربية، وحفاظها على عُذريتها الأصيلة.
يُنبه الباحث نبيل الطويهري إلى قضية جوهرية في فهم قضية التحول. لا يتعلق الأمر بتحول عام وشامل، بل بتحول جزئي يخدم مصالح الأوروبيين بالدرجة الأولى، ويُقصي باقي الفئات الاجتماعية الأخرى من الاستفادة. والحال، فقد كان لتغلغل الرأسمال الأجنبي تأثير كبير على الوضعية العقارية للمدينة، وتوسع أنشطة المضاربات العقارية وإعادة هيكلة التصاميم الحضرية بالنحو الذي يخدم مصالح الجاليات الأوروبية. ففي التعليم مثلا، فقد كان واجهة الصراع الطبقي بامتياز، بين مدارس أجنبية ضمنت لمُرتفقيها الارتقاء السريع داخل المجتمع الطنجي، ومدارس أهلية كانت مُوجهة لخدمة الفئات الوسطى والمحرومة. ليس غريبا، أن نُصادف في طنجة تخصيص منح مالية لتعليم الأوروبيين واليهود وإهمال المدارس الأهلية. بينما في قطاع الصحة، فبقدر ما يَصل إقرار البعض بوجود مجهود مُقدَّر من طرف أجهزة الإدارة الدولية لتحسين أوضاع الصحة بالمدينة، وتقليص نسب الوفيات والإصابات بداء التيفوس والسُّل وغيرها…بقدر ما يسمح ذلك بالتأكيد على تسجيل استمرارية الطب الشعبي التقليدي كنوع من المقاومة لعنف التحول…كان الرهان وقتها من طرف صانعي القرار السياسي في المدينة ،تشييد استراتيجية صحية تحافظ على صحة الأجانب، وتُوفر الأساس الصحي لليد العاملة في الشروط التي تُحقق البقاء.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 13/06/2025