في قلب المنطقة الحرة ملوسة بمدينة طنجة، وعلى بعد كيلومترات قليلة من الميناء المتوسطي، تنتصب إحدى أبرز واجهات التحول الصناعي في إفريقيا: مصنع رونو طنجة. منشأة عملاقة بمواصفات تقنية عالية، تمتد على مساحة تفوق 300 هكتار، وتشتغل بطاقة إنتاجية تجاوزت منذ انطلاق المصنع عام 2012 سقف 3.35 ملايين سيارة موجهة للتصدير نحو أكثر من 70 بلدا.
غير أن الرقم وحده لا يفي بوصف هذا الفضاء الصناعي. ففي جانب منه تم إحداث خط إنتاج جديد خاص بجيل قادم من السيارات يلبي حلول التنقل الذكي والمستدام داخ المدن، داخل هذا المصنع تسود أجواء غير تلك المعتادة في وحدات انتاج السيارات التقليدية : هنا لا ضجيج للآلات، ولا فوضى لوجستية. كل شيء يسير بانسيابية صامتة، تحت إضاءة هندسية دقيقة، وتهوية موزعة بصرامة. هنا، تركب السيارات بكفاءة، دون أي أثر بيئي يذكر. مصنع رونو طنجة هو أول وحدة إنتاجية في المنطقة تحصل على صفة «المصنع المحايد كربونيا»، حيث لا يسجل أي انبعاث للنفايات الصناعية في الهواء أو الماء، ويتم اعتماد الطاقات المتجددة لتغطية معظم احتياجاته.
على إيقاع الروبوتات: دقة متناهية تدار بكفاءات مغربية
في الجناح المخصص لتجميع المركبة الكهربائية Mobilize DUO، تتوزع المهام بدقة بين الروبوتات الصناعية واليد العاملة البشرية. بعض مراحل الإنتاج تنفذ آليا، خاصة تلك التي تتطلب دقة ميكانيكية متناهية أو تتعلق بأجزاء السلامة، فيما تركب مكونات أخرى يدويا على يد فرق فنية مغربية متخصصة، ما يمنح العمل بعدا حيويا ويتطلب خبرة بشرية عالية. هذا التوازن بين المكننة والتدخل البشري يتيح مرونة تشغيلية مع الحفاظ على جودة نهائية مطابقة للمعايير الأوروبية الصارمة.
موبيلايز ديو: مركبة كهربائية تصنع 100 % في المغرب
يوم الجمعة الماضي، احتفلت مجموعة رونو بإنتاج السيارة رقم 2000 من طراز موبيلايز ديو داخل مصنع طنجة، في حدث رمزي حضره وزير الصناعة والتجارة، ومسؤولو المجموعة، وممثلو وسائل الإعلام. هذا الطراز، الذي يعد أول مركبة كهربائية خفيفة رباعية العجلات تنتج بنسبة ، ليس مجرد منتج صناعي، بل تجسيد لرؤية جديدة في التنقل الحضري المستدام. السيارة مصممة خصيصا لحاجيات المدن، بحجم صغير ووزن خفيف وهيكل ذكي، وتحتوي على مقعدين متتاليين، مزودين بكيس أمان هوائي، في سابقة داخل هذه الفئة. أبوابها العمودية، ونظام الاتصال الرقمي المتكامل، يمنحانها طابعا عصريا، بينما تعكس مكوناتها البيئية التزاما صريحا بمبادئ الاقتصاد الدائري: أكثر من 40% من أجزائها مصنوعة من مواد معاد تدويرها، وقابليتها لإعادة التدوير عند نهاية دورة استخدامها تصل إلى 95%.
وتنتج هذه السيارة في نسختين مختلفتين، كل واحدة منها مصممة لتلبية حاجيات سوق معينة. النسخة الأولى محدودة السرعة، لا تتجاوز سرعتها القصوى 45 كيلومترا في الساعة، ولا تتطلب رخصة سياقة، ما يجعلها مثالية لفئة الشباب أو كبار السن داخل الفضاء الأوروبي الحضري. هذه النسخة مخصصة بالكامل للأسواق الأوروبية، إذ لم تحصل بعد على المصادقة الصناعية داخل السوق المغربية.
أما النسخة الثانية فتبلغ سرعتها القصوى 80 كيلومترا في الساعة، وهي موجهة للاستخدام الحضري المتقدم، ويتوقع أن تطرح في السوق المغربية فور حصولها على شهادة المطابقة من السلطات المختصة، ما سيفتح المجال لأول مرة لولوج مغربي مباشر لعالم التنقل الكهربائي الفردي في شكله الجديد.
تصنيع ذكي من أجل مدن ذكية
لا ينظر إلى موبيلايز ديو باعتبارها مركبة فقط، بل كحل تقني مبتكر لحل معضلة التنقل في المدن المكتظة. المركبة مخصصة لتدمج في خدمات التنقل التشاركي داخل كبريات المدن الأوروبية، مثل باريس وأمستردام وبرلين وميلانو، حيث يجري تسويقها ضمن مفهوم «التنقل كخدمة» (Mobility as a Service)، وهي مقاربة تقوم على تقليص التملك الفردي للمركبات لصالح نماذج الاستخدام حسب الطلب.
تصنيع المركبة في طنجة يتيح خفض البصمة الكربونية بنسبة 66% مقارنة بمركبات كهربائية تقليدية من الفئة A. ويعزى هذا الفارق إلى اعتماد المصنع على مصادر طاقة نظيفة، وسيرورة إنتاج منخفضة الانبعاثات، وغياب شبه كلي للنفايات الصناعية. ويتوقع أن تبلغ الطاقة الإنتاجية لخط موبيلايز ديو نحو 17 ألف وحدة سنويا، مع إمكانية التوسع حسب الطلب الأوروبي.
رؤية موبيلايز :
من السيارة إلى الخدمة
تنتمي DUO إلى علامة Mobilize التابعة لمجموعة رونو، والتي تأسست سنة 2021 من أجل إعادة هيكلة العلاقة بين المركبة والخدمة. لا تقتصر مهمتها على تصنيع السيارات الكهربائية، بل تشمل تقديم منظومة تنقل كاملة، تجمع بين التمويل، الشحن، الصيانة، والتتبع الرقمي في الوقت الحقيقي. Mobilize تعمل على تقديم حلول «بيئية، آمنة، وذكية»، وتسعى إلى تكييف المركبة مع الخدمة، وليس العكس، ضمن منظور اقتصادي جديد للتنقل الحضري.
وبالإضافة إلى ديو، تستعد المجموعة لإطلاق طراز جديد يحمل اسم Mobilize BENTO، موجه للمهنيين والنقل الخفيف داخل المدن، وسيتم تصنيعه في نفس موقع طنجة، مما يؤكد أن الأمر لا يتعلق بمشروع ظرفي، بل باستراتيجية استثمارية متكاملة في التنقل الذكي.
دور محوري
في سلسلة القيمة الأوروبية
يأتي توجيه إنتاج DUO نحو أسواق مثل فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، هولندا، وسويسرا، ليعكس الدور الجديد للمغرب في سلسلة القيمة الصناعية الأوروبية. فبفضل اتفاقيات التبادل الحر، وبنية تحتية تنافسية، ورأسمال بشري مؤهل، أضحى المغرب أكثر من مجرد منصة للتجميع، بل فاعل صناعي قادر على تطوير مركبات المستقبل. وقد مكن المشروع من إدماج فئة جديدة من الموردين المحليين، المتخصصين في المكونات الكهربائية والتجهيزات المتصلة، وهو ما رفع من مستوى الاندماج المحلي في سلاسل الإنتاج، وخفف من التبعية للاستيراد الخارجي.
تأهيل الكفاءات:
ثورة صامتة داخل الورشات
من بين أبرز ما ميز مشروع DUO بطنجة، هو المجهود التكويني الكبير المصاحب له. أكثر من 8000 ساعة تكوين نظمت لفائدة العاملين على خطوط الإنتاج، مع تركيز خاص على التكوين الكهربائي، وأنظمة الأمان الصناعية، وتقنيات المراقبة الذكية. هذه الدينامية رفعت من جاهزية الموارد البشرية لمواكبة التحولات القادمة، ورسخت ثقافة التطوير المستمر داخل الورشات. هذا الاستثمار في الإنسان لا يقل أهمية عن الاستثمار في الآلة. الكفاءات المغربية اليوم ليست فقط جزءا من حلقات الإنتاج، بل هي شريك في التطوير والهندسة والتحسين المستمر للمنتج.
استراتيجية صناعية
بتوقيع بيئي
يتماشى هذا التحول الصناعي في طنجة مع التوجه الوطني العام نحو التصنيع الأخضر. المغرب، الذي أطلق في السنوات الأخيرة عددا من المبادرات الكبرى في مجال الطاقات المتجددة، يعمل على جعل الصناعة رافعة للتحول البيئي، وليس عائقا أمامه. ومصنع رونو بطنجة هو التجسيد العملي لهذا الخيار: منشأة لا تصدر نفايات، تشتغل بالطاقة النظيفة، وتنتج مركبات خالية من الانبعاثات.
هذا النموذج الصناعي لا يراكم الأرباح فحسب، بل يراكم الثقة. وقد أشار وزير الصناعة، رياض مزور، خلال حفل إطلاق السيارة رقم 2000، إلى أن «هذا المصنع يجسد القدرة المتزايدة للمنصة المغربية على التكيف والابتكار، ويكرس موقع المغرب كمركز إقليمي لصناعة التنقل النظيف.»
مصنع طنجة في قلب تحولات «رونو» العالمية
منذ انطلاقه سنة 2012، ومصنع رونو طنجة يشكل إحدى ركائز استراتيجية «رونو العالمية». وقد رافق المصنع ولادة طرازات شهيرة مثل Dacia Sandero، Logan، Jogger، واليوم Mobilize DUO. ويعد المغرب ثاني أكبر قاعدة إنتاجية للمجموعة بعد فرنسا، من حيث عدد الوحدات المصنعة، إذ ينتج أكثر من 18% من حجم مبيعات المجموعة عالميا.
في الوقت الذي تعيد فيه الشركات الكبرى النظر في مواقعها الصناعية، بفعل تحولات المناخ، وسلاسل الإمداد، وتقلبات الطاقة، يبرز موقع طنجة كمنصة موثوقة، تنافس على الجودة، وتقدم حلولا مستدامة. ، فسيارة ديو بمواصفاتها البيئية والتقنية، ليست فقط مركبة كهربائية، بل واجهة رمزية لتحول يجري بصمت.. لكن بأثر مستقبلي واعد.