عالم الاجتماع المغربي مصطفى أبو مالك ..علم الاجتماع المغربي مبعد عن المجال السياسي والمدني..

الفردانية أضعفت الهوية الجماعية للمغاربة…

 

الصدفة وحدها من تقود لاكتشاف عقول مغربية اشتغلت في صمت بعيدا عن الأضواء، انشغلت بتخصصها وأعطته الوقت الكافي والعميق لتقديم بحوث وخلاصات علمية تفيد المجتمع والدولة ..هذه الطينة من الأكاديميين والأساتذة الجامعيين الذين يولون قيمة حقيقية للبحث العلمي ويقدمون صورة بهية عن الجامعة المغربية، باتوا في تناقص ملحوظ …
الجامعة المغربية مرت منها قامات وهامات علمية كبيرة أسندت السؤال المعرفي، راكمت من الدراسات والأبحاث الرصينة ما يغني الذاكرة الوطنية والعقل الأكاديمي .. ولم تكن غايتها سوى الانتصار لجامعة مغربية تخرج أطرا تعتمد عليهم البلاد .
ضمن هذه الرؤية ومن خلالها، التقينا واحدا من أبنائها وخريجيها الخلص ممن بقوا أوفياء للهدف العلمي المحض، دراسة وتكوينا وتخصصا. البروفيسور مصطفى أبو مالك، عالم الاجتماع الذي حصل تجارب معتبرة في الكتابة والإنتاج العلمي، فتح لنا كراسته العلمية لنوقع فيها بعضا من أسئلة تهم الحال والمآل في السوسيولوجيا المغربية وعلاقتها بباقي العلوم، وضعية علم الاجتماع المغربي .
هي دردشة أردناها كاشفةً لبعض الإشكالات المطروحة اليوم على مجتمعنا ونسيجنا الوطني. هل دور علم الاجتماع يقتصر على طرح الأسئلة المزعجة، وينتهي عند هذا الحد؟ هل يلتقط الفاعل السياسي خلاصات البحث السوسيولوجي، سواء كان رسميا أو حزبيا؟ وهل تكون السياسة، إذا شُربت على الريق، مغصاتها ودوخاتها وبالا على التحليل وصناعة القرار؟
ابتداء وانتهاء، هذه هي الأفكار التي حاولنا تطارُحها
مع هذا الرجل الهادئ.

o o علم الاجتماع في المغرب يوجد في مكان قصي، يكاد يكون مبعدا عن المجال السياسي والمدني، هل لا تزال ترافقه نفس النظرة المتوجسة منه، والتي تعتبره مختبرا عميقا لفهم كل التحولات التي تخترق المجتمعات، وحقلا يطرح السؤال الذي يحرج صناع القرار؟

n n في ما يخص سؤالك، علم الاجتماع لايزال يعيش تلك الوضعية، التي تصوره كعلم يحرج كما قلت ..ولو أنه على الورق تم الاعتراف بعلم الاجتماع. هنالك تخصصات في عدة كليات حول علم الاجتماع، ولكن كمادة تتناول الواقع كما هو.. وليس كما نريد أن يكون، فهذا الطرح والمنهج الذي يتناوله علم الاجتماع، يجعله علما يحرج..ماذا أقول ..هل أجازف بأنه لا يزال في «مرحلة الطفولة» إن صح القول، علم يبحث عن نفسه، وهذا لا يعني أن هنالك مجهودات وناس يعملون كل ما في جهدهم حتى يشق علم الاجتماع طريقه كبقية العلوم، كدليل ..التخصص الموجود اليوم في كلية الآداب عين الشق، الطلبة آمنوا بهذا المنهج وبدأوا يستثمرون ذواتهم في هذا التخصص العميق .

o o علاقة السوسيولوجيا بالقانون الذي هو خلاصات لقاعدة قانونية تعبر عن موازين القوى، في حين علم الاجتماع يحاول قراءة سياق إنتاج تلك القاعدة ؟ هذا التضاد هل لا يزال حاصلا اليوم، وفي أي مستوى تبرز تمظهراته ؟

n n في ما يتعلق بالسوسيولوجيا والقانون، هناك علاقة موجودة لكن لا يمكن توصيفها بالعلمية، لكن أعتبرها علاقة صعبة بما تحمل هذه الكلمة من معاني، يكفي أن نشاهد الواقع الموجود بكليات الحقوق المتواجدة في بلادنا، وأستطيع التكلم عن كلية قضيت فيها أربعين سنة هي كلية الحقوق بالدار البيضاء، كانت دائما محاولة مستمرة لتهميش مادة علم الاجتماع، وكانوا مرارا يذكروننا نحن «كميشة» الباحثين في مجال علم الاجتماع، أننا علينا الرحيل إلى كلية الآداب ..مكاننا ليس في كلية الحقوق (يضحك البروفيسور..)، وفعلا شاءت الأقدار أو الصدف أن جميع الأعمال المهمة التي أنجزت في كلية الآداب كانت لباحثين أصولهم الأكاديمية تعود لكليات الحقوق، إذن هذه العلاقة بين السوسيولوجيا والقانون لا تزال صعبة، ولا يوجد مجهود لتجاوز ذلك السؤال القانوني المحض الذي يقتصر على الوصف ولا يذهب بعيدا إلى عمق الأشياء، ويتناول التحليل العالم والفاهم. جميل أن نصف القاعدة القانونية، وما هو أجمل وأفيد أن نسائل هذا القانون ومقتضياته، أعطيت عدة أمثلة في القانون المدني، في القانون الدستوري، القانون الإداري، وركزت بشكل كبير على قانون الأسرة الذي يعتبر هو قانون الساعة.

o o المجتمع المغربي يعيش تحولات بنيوية وديناميات اجتماعية غير متحكم فيها بل غير مقروءة بشكل جيد، وحتى إذا وضعها قيد الدرس عالم الاجتماع، النخب الثقافية والسياسية لا تعتمدها في تحليلها للواقع المغربي …لماذا يصلح إذن علم الاجتماع المغربي ؟

n n بالنسبة للتحولات التي يعرفها مجتمعنا المغربي، هي مسألة بديهية، كما بقية وسائر المجتمعات في العالم، لكن كأننا نعيش نوعا من الازدواجية ..التحولات تحدث في جهة، وما يسمى بالسياسات العمومية في جهة أخرى، الدولة تساير بصعوبة، أتساءل هل الدولة فعلا تساير .. لماذا ، لسبب بسيط هو أن الرهانات العلمية متعارضة تماما مع الرهانات السياسية في الحقل السياسي.. دائما رهانات مرتبطة بالانتخابات ، مرتبطة بالمصالح . في حين الرهان العلمي ما يهمه كما قلت في البداية هو تناول الظاهرة كما هي وليس كما نريد أن تكون ..كما قال «دوركهايم» في علم الاجتماع نحاول أن نسمي الأشياء بمسمياتها، في حين أن المجال السياسي يخضع للتأويلات حتى لا نقول نوعا من التحريف، توجد أسباب سياسية لاتهم عالم الاجتماع، هو عندما يتناول حقيقة يدرسها ويصفها ويحللها، هنا تنتهي مهمته، ولكن رابط الاستمرارية والمواكبة وإكمال ما بدأه السوسيولوجي غير موجود . هذا ما نلاحظه بشكل كبير .

o o هنالك من تحدّث عن أن هذا الجيل، الذي يُنتج عنفه الرمزي، هو جيل يبحث عن المعنى ولا يعرف إلى أين يسير. فهل نحن أمام ضعفٍ بيّنٍ لدى النخب في قراءة الواقع وإيجاد الأجوبة عما يخترق مجتمعا تقليديا عاش تحولا مُعاقًا نحو التحديث؟ هل يُفسّر هذا الأمرُ ما نعيشه من انهيارٍ في منظومة القيم وفي قواعد السلوك؟ وما علاقة ذلك بالتحولات التي مست الأسرة والعائلة، والقرية في سياق التحول المديني، وبالممارسة الدينية التي تغيرت بدورها؟ تحولات انعكست على البُنى الاجتماعية وأدت إلى تغيير في العلاقات والأدوار؟

n n انهيار القيم هذا واقع، لكن يجب الحذر من السقوط في تأويلات قد تفتح الباب أمام أحكام غير موضوعية، شخصيا أتحدث عن تحولات وتغيرات في القيم ..هنالك تطور في الثقافة السائدة، أعني بالثقافة طريقة التفكير وطريقة العيش، وبطبيعة الحال عندما نلاحظ التطور على المستوى الثقافي كما وصفت، هناك تحول على المستوى القيمي ، ما يلاحظ أن هذه الثقافة بدأ يطغى عليها نوع من الفردانية وليس الذاتية ، التي بدأت تهيمن ..هذا يقع في العالم كله والمغرب لن يشكل استثناء . مثلا القيم التي تحكمت في المجتمع، والتي يمكن وصفها بالجماعية، القيم التي كانت في الأسرة، في الحي، انحسرت وتراجعت لصالح بروز قيم جديدة تعلي من قيمة الفرد، نلاحظ في العلاقات الأسرية لم تعد تلك القديمة التي عشناها، تغيرت، لا نقول أحسن أو «أكفس « ولكن الأكيد هي أنها تغيرت. المجتمع المغربي لم يعد متقوقعا على نفسه ..العولمة غير الهمجية تؤثر وأثرت على جميع المجتمعات .

o o مدننا أصبحت عبارة عن تجمعات سكنية عشوائية غير مدروسة وغير خاضعة لتخطيط عقلاني ..بل هي في كثير منها عبارة عن دواوير عشوائية ومجمعات إسمنتية بدون روح ولا هوية ؟

n n أزيد بالتأكيد في هذا السياق، لنأخذ المجتمع الحضري، الأحياء التقليدية التي كنا نعرف في الستينيات، أصبحت الحياة اليومية التي كنا نعيشها بشكل جماعي منعدمة، والفردانية حلت محل هذه الثقافة القديمة .أسطر على هذه الكلمة، وهذا ما يدفع للقول بغياب هوية جماعية لصالح هوية فردية ..كمثال بسيط من قبل، أنا كبرت في» درب السلطان» لم يكن الناس ينادونني «مصطفى»، كانوا يقولون «ولد سي ابراهيم» والآخر ولد الدكالي، ولد العبدي، هذا حريزي، هذا شلح ..ما أريد شرحه هو أن هويتنا كانت جماعية، مرتبطة بالأسرة، متواشجة مع الأصل .اليوم يتحدثون عن فلان وفلانة وليس ابن فلان .

o o هل «سوء الفهم» الذي اخترق العلاقة بين السلطة والمجتمع في بعض المراحل المفصلية التاريخية إن شئنا، جعل التواصل يتم على أساس مصلحي ظرفي بين الطرفين؟

n n لا توجد قطيعة، حاليا توجد تغيرات، يمكن القول إن هناك صعوبة في تدبير هذه التغيرات، بات هذا الأمر صعبا، في أعمالي التي أشتغل عليها أحاول ربط المسألة بما هو نفسي، هناك تداخل بين السوسيولوجي والنفسي ..أستطيع القول دون السقوط في التأويل، هنالك معاناة لتدبير هذا التغيير .

o o كتبت أستاذ أبو مالك عن كازا التي تعتبرها المغرب المصغر..أخرجت كتبا ..ما الذي رصدته كعالم اجتماع حول الدارالبيضاء ..ماذا تغير فيها، كيف ينظر أهلها إليها اليوم خصوصا جيل المسنين ؟

n n دليلي في هذا الأمر هو الدراسة التي قمت بها على مدينة الدار البيضاء، حاولت تحليل ما جاء في تصريحات الناس المسنين الذين تتجاوز أعمارهم الستين، كلهم تتسم ردودهم وأحكامهم بتلك النظرة التشاؤمية، ليس فقط غير فاهمين لهذا التغيير الذي يحدث، بل يعانون في تدبير ما هو قديم على ضوء ما هو جديد . بالنسبة للعالم القروي، نفس الشيء قمت أخيرا بزيارة لمنطقة قروية في نواحي عبدة حيث قضيت جزءا من طفولتي، في الدوار قلت لمرافقي نحن في» فيلاج مكسيكي «، هناك برود في العلاقات ..الناس مشغولة بنفسها وهناك انعزالية عن الآخرين، لا تجد الناس مع من تتكلم، أصبح هذا مهيمنا حتى في العالم القروي ..ونستطيع عكس هذا الواقع على المدينة بتفاوتات وسياقات متقاطعة.
أيضا اشتغلت على موضوعة العزوبة أو العيش «صولو»وظاهرة الفتيات اللواتي يرفضن الزواج التقليدي ، مستغلات لإمكانيات رمزية ومادية .. في انتظار الزواج بالطريقة التي يردن …
نحن كعلماء اجتماع نلاحق الظواهر ونطرح السؤال السوسيولوجي بأدوات علمية ..دورنا ينتهي عند القراءة والتحليل والرصد ومحاولة الفهم للوصول إلى خلاصات موضوعية، الباقي موكول لبقية الفاعلين كل من موقعه .


الكاتب : حاوره: محمد دهنون

  

بتاريخ : 31/05/2025