صدر للأديبة العراقية عالية ممدوح كتاب جديد بعنوان» في أحد طوابق الستينات ـ قراءات في الهامش الإبداعي»(مطبعة الأديب، عمان، الأردن، 2025) هو الجزء الثاني لكتاب سابق لها عنوانه» مصاحبات: قراءة في الهامش الإبداعي»، صدر في المغرب عن دار عكاظ). في ما يلي قراءتي للكتاب الجديد رحلة أدبية ونقدية ذوقية في نصوص كتاب مميزين، بمقاربة وأسلوب ونظرات وإرهافات كاتبة لها موقعها الخاص في الرواية العربية.
1 ـ عندي هو العنوان المحتمل الذي أبيح لنفسي وضعه لمُجمل المقالات والنصوص التي دوّنْتها ونشرتها الأديبة العراقية عالية محمود، في نطاق النشر الصحفي، بما أن أغلبها منشور في صحيفة الرياض السعودية، وفي حقبة زمنية جلّها في سنوات العقد الثاني من القرن الجديد. هي مادة/ مواد تتّسم بالغِنى في كمِّها ومحتواها، والتعدّدِ في مواضيعها، وتتنوع معالجاتُها، وتتباين المقاربات؛ بذا تمنح للقارئ فسحاتٍ يمتح فيها من مناهلِ الفائدة، والاكتشاف، والذوق، والحساسيات المرهفة، والحميميّات، لسانِ البوح ومأوى الذوات؛ ومن المشارب جميعِها يجني قطوفَ المتعة. معظُمها الدّاني، وبعضُها عليه أن يرقى إلي مدارجه في عليائه حيث متعتُه ألذّ.
2ـ وللوهلة الأولى، فإن المجال الذي نُشرت فيه هذه الكتابة أملى مطلبه نوعًا ومضمونًا وشكلًا. هي صحيفة يومية سيّارة تتوجه لقارئ متعلّمٍ وذي قابلياتٍ محددة، ومتعددةٍ، للتلقي، فتحتاج لما يلبّي مطلبها، هو هنا في خانة الثقافي الأدبي، لذا أوْلَت عالية ممدوح عنايةً كبيرة للمطالعات والمراجعات، تقدم للقارئ زادَ التعرف على إصدارات حديثة من منتقياتها نقف عليها في هذا الكتاب مجتمعةً، تبُحر بنا بين مدّ وجَزْر، وسكينةٍ ولَجَب. في هذا القسم تحرص ما أمكن على العرض والوصف واستخلاص المعلومات ذاتِ الطابع الموضوعي في موقع من يُقدّم ويُعرِّف، ويتفادى بلباقة أن يحكُم أو يجزِم، وإن عُدّ اختيار هذا الكتاب، والتعريف بذاك المؤلف ضمنًا حُكمًا لصالحه، مع الحذَر الذي يلازم حاملَ القلم في الصحيفة، وينتبه لخطّها ورؤيتها العامة.
3 ـ في هذا النهج نلاحظ تركيزًا على أعمال أدبية روائية خاصة لكاتبات. منهنّ مواطنتها ميسون هادي، واللبنانيتان علوية صبح، وإيمان حميدان، والمغربية فاطمة المرنيسي، وأخريات. كذلك قرأت نصوصًا أو بجّلت كتابًا من عيار غويتصولو، محمد خضير، سعيد الكفراوي وكليطو. ولن يسع القارئ إلا أن يلاحظ أنها قراءاتٌ مزيجُ فهْمٍ واحتفاءٍ بعوالمهم يبلغ أحيانًا درجة الاندماج والحلول بها، يكاد القارئ يشعر أن قول هؤلاء يصدر من حنجرتها وما هم إلا لسانُها. هكذا يكمن في قلب هذه المطالعات نبعٌ دافقٌ اسمُه الوجدان، هو بعدَ الفهم والعيان، البوصلة.
4 ـ ضمن حصيلة موادها الصحفية بعضُ ما يقف عليه القارئ في هذا الكتاب حوارات مع كتاب عرب تعنيها أعمالُهم الروائية، وتحاورهم، تسائلهم بشأنها، لها ثلاثة أغراض من هذه المواد: الأول، التعريف بهم من منظور تختاره هي يضيء دلالاتٍ ويرسم علاماتٍ فنية أشبه ببورتري عام للكاتب. الثاني: تطرح للحوار مواضيعَ تراها الأجدرَ في الرواية والأدب عمومًا وقابلةً لتبادل وجهة النظر، وهذا قليلًا ما يحدث فالكتاب العرب يظهرون لكلٍّ جزيرتُه وفنُّه، أرخبيلات منعزلة فيما البحر واحد، يجهد النقد وحده للمّ شتاتِ نصوصهم وتقويمها، ويكون الحوار كما هو هنا ضربًا من الاستقصاء يُبينها ويُحييها. الثالث، أن تصبح المادة مرجعًا وتثبت المحاورَ رأيًا. تحقق هذا، في الحوار مع الشاعر الروائي المغربي محمد الأشعري، والروائي اليماني حبيب عبد الرب سروري، حول فنية سرد الأول، والعالم التقني والفضاء العلمي الجديد للثاني.
5 ـ يبقى القسم الثالث من مواد هذا الكتاب ـ محصلة مقالات صحفية في الأصل ـ عندي، وفي رأيي، هو الأهم، لسبب وجيه وبدَهي، كونه يكشف عن شخصية منشئتِه، ومشاغلِها، وأسلوبِها. فإذا كانت المواضيعُ المطروقةُ والمطلوبةُ عمومًا للكتابة الصحفية تبتغي القصدَ والبيانَ بناءً على الموضوع والغرض، فإنها إذ تنتقل إلى قلم الكاتب(ة)، هنا روائيةٌ صاحبةُ تجربة شمولية وطَرْزٍ أدبيّ وأناقةٍ أسلوبية، يختلف المبنى كلّيةً، في طيِّه معناه، وقد صاغته بطريقته، بالأدب.
6 ـ لنبين أولًا، أن هذا القسم من الماد الصحفية، كأنه مستوحى من قوله تعالى:» إنّا خلقنا الإنسان من أمشاج» والمشْجُ كلُّ لونين اختلطا» من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه»(الإنسان/2) نجد فيها كثيرًا من الذكريات موطنُها العراق البلدُ الأم الرُّجعى، معزوفةً على وتر الحنين، ومحمولةً في دجلة الولع وفرات الأنين؛ فيها من وجع الترحال والمدن المنافي كمدٌ ولا يقين، وأجمل ما كان فات ظل هناك في طُور سينين. فيها فيضُ ذكرياتٍ، ومن الأصحاب أوقاتٌ فرِحة وأخرى مدلهمّة، يأسٌ من الوطن، صار عظامًا ورفاتًا، يمكن للغة أن تلعب في سيرك المسرّات، والباقي شتات. نشيدُ جنازٍ متصل مرةً، ومنفصل، مجروحٍ دومًا بالطعنات، ما إن يستعيد نسقَ المنطق تصدمُه عوادي الأيام، أعني الكلِم كلما هدّأت صاحبته هيجانَ الخاطر والاحتراق بالحُمَم تفرّق شذرات.
7 ـ لنبيّن ثانيًا، أن امتزاجَ ومزاجيةَ وعواصفَ هذه المقالات/ نفثاتِ اليراع، مرجعُه أزمنةٌ متقلبةً كُتبت فيها، هي بنتُ وقتها، حرائقُها اشتعلت عند الكاتبة منذ ضاع منها الوطن البِكر وتوالت عليه النكبات، هي ممّا رُدِم منه، وما تبقى رِممٌ في بلدان وثقافات وعيش الآخرين، ما انفكّت الأهوال تهزّ العالم في كل مكان، وتجاعيدُ خفيةٌ وظاهرةٌ، وشمٌ على الجسد بالكمد وفي الوجدان. الشاعر والروائي لهما حساسية وإحساس النار والأنوار والحدس والأخيلة، هنا المرجع الثاني. ينجُم عن الإثنين اللاّ استقرار وغياب اليقين. لذلك نسمع في هذه النصوص صخب احترابٍ وسجالاتٍ بين تيارات، وإدانةً صريحة لإيديولوجيات من قلب تجربة شخصية في عراق الماضي ومع رفاق أمس، توازيها أحاديث مهموسة مع» المحبوبات»(رواية للكاتبة، 2003)؛ تُقرأ بمجهر سُننٍ باطنية ودوالّ سيميائية، أي ليست متاحةً للقارئ العام، وتقترح برنامجًا مغايرًا لكتابة النص بمزيج من التراسل والمذكّرات والشعرية والانطباع وفيض الخاطر بوسْم الحِداد.
8 ـ منذ وقت بعيد (1753)علّمنا الفرنسي Buffon أن» الأسلوب هو الرجل[نفسه]»، وعالية ممدوح في هذه المقالات، والنصوص، المنشورة صحُفيًا، والمضمومةِ كتابًا، تستحق أن نقرأها كاتبةً بالدرجة الأولى، ذات تجربة شخصية+ تاريخ جمعي+ تعدد زمكاني+ حصاد وجودي وخلاص فردي مستحيل، لحمتُه وسداه ومصهرُه على الدوام ذاتٌ مضطرمةٌ بين لواعج ذاتها ودورانها في فلك موضوع موضوعية هاربة، بدا هي كتابة مضاعِفة، أسلوبها متوتّرٌ وحارّ.