عام من العزلة : أحمد المديني: يومٌ في بستان (العزلة)

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

1

انتهى هذا اليوم والوقت يلعب بين يديّ ورأسي، ينتقل من رشفة القهوة إلى صفحة كتاب عيناي عليه تجريان فيه بكسلٍ وتوان، ويحمِلهما المللُ إلى سماء عالية زرقتُها تتدفق على شرفة مكتبي أراها لاهيةً عنّي وعن حالها كأنها غير موجودة، وإنها لكذلك، غائبة، إذ لا ينظر إليها أحد، فالشيءُ، الطبيعةُ، الكائنُ نفسُه لا يكتمل وجوده ويكتسب معناه إلا وهو واقع في دائرة نظر وإحساس، لذلك الطبيعة ليست حزينةً ولا جَذْلى، لا غضبَى وما هي منشرِحة إلا بما نُسقطه علينا نحن، هكذا فكر بودلير في زمن سابق، يتحدث عن الشجر، لا عجب وهَب للنبات خِصلةً (أزهار الشر) فلم يعد محايداً؛ أوَ يوجد حقا شيءٌ محايدٌ في هذا العالم؟!

2

لست في عزلة أبداً، لأن هذا هو عيشي الطبيعي، لكن الإعلامَ المهلوس، والصمتَ المطبق، والفراغَ الوحش في الشارع، وتذكيرَ زوجتي لي الملحاح بغسل يديّ مرات كلما فتحت الباب، ومنغصّاتٍ أخرى، تُفسد عليّ عزلتي الحقيقية، طالما اعتبرتها كنزا من دون الأثرياء ومنجمَ ثراءٍ لا ينفد؛ ها هو بإرداة وباء تافه يُقعِد البشرية جمعاءَ في غرفة الصمت والوحشة ويُملي عليها شروط البقاء من الفناء، ألتفت إلى مكتبي فأحس به بغتة لا يشبه ما كان عليه وينبغي، وصدره الفسيح بي يضيق، والأشباح المدفونة في كتبي يا لها دفعةً واحدةً تستفيق.

3

إنني بالضرورة هذا الكائن بقوة آخرين في الجماعة، والآخرون من يصنعون شروط وضعي ويتحكمون في نوع إحساسي، سواء أجرمت أو بريئاً من أي ذنب، فائضُ الحرية الذي أعيشه في هذا البلد الأوروبي جعلني أسرف في تقدير قوة إرادتي وفسحة حركتي، بين الليل والنهار أستطيع أن أكون وأصبح على هواي وقتا ثالثا في مدار الزمن وخارج فَلَكه، أتمدد أتقلص أطُول أقصُر أكبُر أضؤل أشِبُّ أشيخُ أرقصُ أغنيِّ أنتحبُ أصدَحُ أصيحُ أصرخُ تنطفئ جميع أضواء الغرف في العمارات المقابلة، وحدها عيونٌ تبقى تتلصّص عليَّ تقتل وحدتي ك(متلصص)رواية روب غريي ينفّذ جريمته ويمضي لا يدري وهو يتلصص.

4

يسرقون عزلة الذهب، «أعز ما يطلب» عندي من كتاب ابن تومرت، انظروا لا شك ممسوس، يعنونني، ننام.. نصحو.. نتناسل..نركض في الأنفاق..نلهو بالصفقات.. نمجن بالصفاقات ونعود نؤوي إلى أسِرّتنا مُترعين بالشبق، بينما هو، هو، حيث تركناه، لا يظهر وجهُه، فالعتمة غلالتُه، وحدها الأبجورة ضوؤُها مسلّط على حاسوبٍ أمامه ترقص فوق لوحته أصابعُ مثل ساقَيْ بهلوان، ربما هو يُغنِّي، يروي ربما نكتة، أو لعله يَحْبِك لعبةً من حِيَلٍ يقال يلعبها في روايته، لِمَ لا صورةً شعريةً يقبسها من أولمب الأزل، أوَلاَ يحب، يغضب، يمرَض، يجوع ويعطَش مثل سائر الناس حتى وهو ليس مثل سائر الناس؟! في الوقت الثالث بين الليل والنهار ومن نوافذ وشرفات العتمات المقابلة، الأعناق مشرئبةٌ والناظوراتُ مسددةٌ نحو نافذتي وأنا خلفها جالس هنا في مكتبي كما أنا منذ الأزل، قد استنفدت تاريخ البشرية، ولا أمل، أراهم يحدقون غير مصدقين أني.. أتغذى، أعيش فقط …بفاكهة العزلة !
باريس في 17.04ـ 2021


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 24/04/2021