ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
فجأة، صرت مثل السجين! عليك التكيف حسب المكان، وتنفيذ كل الأوامر، دون مساءلة للتقيد بالحجر، والسعي نحو تجاوز وضعية لم يكن لك فيها يد، ريثما تنجلي غمة، قد أصابت عموم البلاد وكل أراضي المعمور،عليك المكوث وفي البيت، لاتستطيع خروجا سوى لقضاء الملح من الرغبات، وتحت شروط الطوارئ قدر الأمكان.
و(لزوم البيوت) يعد كسجن كما ذكرالشاعر(المعري):
أراني في الثلاثة من سجوني
فلاتسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري و(لزوم بيتي)
وكون النفس في الجسد الخبيث
كان لابد من صرف وقتك حسب برامج تخلقها، مرغما على التكيف حسب الظروف،ونسيان ما قد ألفت ومنذ سنين، لتخلق جوا جديدا ،تعايشه ثم تألفه، وبكل رباطة جأش، فأنت تواجه خصما خفيا عنيدا، يحاربنا في الخفاء، ستحرم من متع وطقوس ألفت معيشتها، لتواجه هذا الوباء.
كان أصعب شيئ شعرت بحرمانه، لحظات الجلوس، وكل صباح، بمقهاي في الحي أقرأ وأكتب فيه.
اتذكر أحبابنا والذين هنا طالما وقفوا: ماسح الأحذية، وهو في ركنه يتفحص أقدامنا، يتأبط صندوقه الخشبي الفريد، يبيع السجائر، في نشوة يتملى بتدخينها، ريثما يصطفيه مريد.
ويظل المجاز الذي خذلته الظروف صديقا لنا، يرتضي بيع أحزمة وحقائب جلدية، ويشاركنا عشقه للأدب.
أتذكرذاك الشريد الذي كان يشرب كل بقايا الكؤوس، وفي سرعة، حافيا يتسلل بين الموائد عبر الصفوف، تفوح عفونته،لا يغادرإلا طريدا، يلاحقه غضب الزبناء.
واختفى النادل المترقب موعدنا، وافتقدنا ابتسامته، وتساؤله ماالذي تشربون؟ ليرتاح حين نبادله ودنا، ويطيل المكوث بجانبنا، ريثما يتراءى زبون.
أين مقهاي يحضنني مثلما قد ألفت، فرحا، فيشاركني فرحي، وحزينا، يقاسمني ماعليه.
وافتقدنا لقاءات أبنائنا، وملاقاة أحفادنا، نتذكرهم حرموا متعة النزهات بجانبنا، سجنوا دون علم، وما ارتكبوا أي ذنب يبيح العقاب، تساءل معظمهم، لتظل الإجابات عاجزة، ويكون اللجوء إلى الحواسيب والهواتف حلا يهدد صحتهم ، ونزاعاتهم تتكاثر، لايؤمنون بغير اللعب.
وفقدنا الألوف من الأبرياء، وغاب العديد من المبدعين وأهل الفنون وفي غفلة رحلوا، تركوا الجرح ينزف لم نستطع كبح هذا الوباء، اكتفينا بنسج عباراتنا في الرثاء.
وتفاجأت صدقا، بموقف بعض الرفاق وقد لزموا الصمت، لم يسألوا، وكأن الصداقة في ظنهم أن يكون حضورك ما بينهم، فإذا غبت غاب السؤال، ومهما خلقت من أعذار تقنع نفسك جراءها؛من ظروف مباغتة، وطوارئ حادثة، لم تساعدك طمأنة، فالهواتف جاهزة والوسائط ناجزة، غير أن الإرادة غائبة، وعليك تقبل أمر النسيان.
يستمر الوباء في حصد الضحايا، يعي العلماء خطورته، يبحثون له عن لقاح، تظل مساهمة المبدعين، وعبر رواياتهم، وتلاوين لوحاتهم، ثم تدوين أشعارهم، كعلاج.
استفدت من الحجر حين نسجت (ملامح من سيرة) في الكتابة ثم الحياة، أشذب أغصانها، تتوزع تلك الحوادث عبر فصول الولادة، من نشأة وظروف معيشية، ودراسية، وانخراط بسلك الوظيف، مع الاهتمام بما للكتابة والشعر من أثر، والصداقات من قيمة، والتمتع بالسفريات اكتشافا لأمكنة، قد تضيف معالمها، لك زادا من الحب والذكريات.
كان ذاك الحديث المموسق سدا أمام التفاصيل،لا يستجيب لغير الاشارات في متنه، فطريقة إنجازه تنتمي في الأساس الى النظم، حيث انسياب السطور، فلا تتوقف عند القراءة، أو تتساءل عما يروقك أو قد يغيظك عند السماع.
فرصة سنحت، لأرتب مكتبة غاب عنها التناسق، حيث الرفوف علاها الغبار، وظلت رهينة نافذة، تهب الخشب المتقادم أنفاسه، ساعدتني الرفوف التي تستجيب عمودية، أفقيا اذا ما أردت، تطاوعك العلب الخشبية دون مسامير،إذ تكتفي بالجوار، تؤانس بعضا، يمينا شمالا، وفي كل منحى، لتخلق بالفجوات رفوفا إضافية، وتشكل ما قد تريد، وحسب المساحات والحيز المتيسر دون عناء.
هي مكتبة جل ماتحتويه: دواوين شعر، ومنتخبات تراثية، أمهات من الكتب المشتراة، يعز الحصول عليها، وإن صارت الآن أقراص في ملك كل مريد، بأبخس سعر، قواميس شتى يظل (اللسان)أمام مضامينها عاجزا، تتناقص بعض الرفوف بفعل الإعارة، حين تصير لدى بعضهم دائمة. قد تعاد المراجع مبتورة، بعدما فقدت بعض أجزائها، وعسير وجود المقابل في المكتبات، ولن ترفض الطلب المتكرر من باحث، كنت أخبرته بوجود مصادر تسعفه، أنت تملكها، لتمر شهور وتخبر بعد السؤال بفقدانها، لايفيد الأسى وأمام المصاب، وذلك أن الكتاب أساسا، مشاع ليقرأ،لا تحفة قد تزين أركان بعض البيوت.
انشغلت ببعض الهدايا من الأصدقاء، فكانت تواقيعهم فسحة للمحبة، خطت أناملهم صدق إحساسهم، نسجوا ودهم،عبر إهدائهم لنصوص، أظل حريصا على حضنها، وسعيدا بمضمونها، فالخطوط وسيلة وصل، تقوي المودة عبرالسطور، سعدت ببعض الرسائل من أصدقائك تحرص أن تحتفي بالذي دونوه.
ومن السجن كان التواصل بالأصدقاء، وقدعكفوا في الزنازن رغم الظروف وهم يبدعون، وقد جعلوا من نصوصك، مادة أبحاثهم، كنت تحرص أن تستجيب لكل مساءلة، وأعنت بما تستطيع لإنجاز ما يودون
وتظل هدية شاعر طنجة (عبد القادر المقدم) من أقدم المطبوعات، فقد نشرت عام ثمانية وأربعين،وكنا التقينا بطنجة عام ثمانية وستين، فأهداني ديوانه “لمحات الأمل”، ثم أهديته “الحب مهزلة القرون” كنت صحبة أستاذنا إبراهيم السولامي، وادريس الناقوري ومحمد ابن دفعة والأصدقاء، وكنا ضيوفا لجمعية المبدعين ابن بطوطة، وفي مهرجان الثقافة والفن، حيث حضرنا ومن فاس تلبية للنداء.
لم تكن سنة الحجر سلبية كلها بل إيجابية، حيث تم طبع كتابي”إعدام الشعراء” و”حين يخطئ الموت طريقه” وقد صدرا عن “خطوط وظلال”، كما قد حظيت بجائزة الشعر لعام 2020 في خضم انتشار الوباء.
… هكذا مر عام وتم ابتكار اللقاح.. بدا فرصة للنجاة ،على الرغم مما يصاحبه من مخاوف غير مقنعة، وأساطير صيغت، تندد جازمة بعواقبه، وهكذا تستمر الحياة.