عام من العزلة 20 – سعيدة لقراري: بالكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة

والجائحة تطبق على صدورنا بذراعي الحجر الصحي، فرملة عنيفة تودي بالعالم إلى توقف اضطراري..
توقف يزرع الشلل، خارج المحطات، ويفتح شهية الموت، لتتوقف مشاريع بناء الحدائق والملاعب، وتنتعش في المقابل مشاريع نسج الأكفان، وإنشاء المقابر..
مقابر كادت كورونا أن تحجز لي بثراها مكانا، وأنا أصاب بالوباء، وأُضطر للالتزام بالبروتوكول الصحي، على مستوى الروح والجسد، في شهر شتنبر من السنة الماضية، لولا لطف الله الخافي.. لطف لا زلت بظله أستجير وأتقوى ..
وأنا أُلْحَق بركب ضحايا، أصبحت مصيبة الوباء لديهم، عند صيادي الهمزات فوائد، صيادون عرت كورونا وجوههم، وأُسقطت عنها الأقنعة، لتبرز أنيابهم مجردة من الابتسامات الصفراء، جاهزة للافتراس، وتظهر مخالبهم مجردة من القفازات الناعمة، متأهبة لنهش لحم بني جلدتهم، في سبيل تحقيق غايات، قَوَّت ساعد الفقر ووسعت ثقب الهشاشة ..
أمام هذا الوضع المقلق، والمتيح لتناسل الظلم والحكرة، مترقبا ومراقبا أصبح الخوف والتخوف اللغة الرسمية للعالم، ونبضه اليومي..
الزائر الغريب يقترب، يتفشى، يخطف الأرواح المشدوهة، عدد ضحاياه في تصاعد، لا سفينة نوح تأخذنا إلى بر الأمان بعيدا عنه، ولا حصان طروادة يُمَكِّننا من رقبته..
في تراجع، في استقرار، الزائر الغريب، ليس وحيدا..  تظهر له سلالات في مناطق من العالم، وتيرة الاستنفار تتصاعد من جديد .. ووطأة العزلة تشتد .. عزلة أسقطت الأقنعة، ضبطت رياحها الأشرعة، ووضعت طاقم السفينة على المحك..
صورة هلين كلير على سطح ذاكرتي تطفو، وهي تدخلني رحاب عزلتها عند فقدها لحاستي السمع والبصر، عزلة تعايشت معها طول حياتها الحافلة بالإنجازات، لتؤكد لمن ألهمتهم بأن الإعاقة الجسدية دافع قوي للتغيير الإيجابي وليس عزلة أسلاكها شائكة تدمي يد الطموح.
خلف نافذتي الموصدة في وجه الكوفيد الشقي، أرى أوراقي تختلط أمامي، ورياحا من كل الاتجاهات، تدعوني إلى مراقبة كيفية ترتيبها لفوضانا..
عصف ذهني ووجداني يلبسني ويجعلني أشارك الرياح ترتيبها لأشياء تخصني أكثر مما
تخصها، مرددة قول محمود درويش» في البيت أجلس لا حزينا، لا سعيدا، لا أنا، أو لا أحد»
أعود لأقف خلف نافذتي الشفافة، أراقب تطورات سيناريوهات الزائر الغريب، لكن نقطة الوصول منه لا أترقب، حولت مكان العالم وهوية الزمن، من خارج النافذة إلى دواخلي، لأنشغل بي عنه بعدما حررتُني من قفص انتظار مهووس بأخبار تمديد الحجر، أو تخفيفه، وتأمل الوجوه وهي تستهلك الكلام، والاحتمالات، والسجائر حد الشره..
مرور عام من استقرار الجائحة فينا وبيننا، عَمَّق عزلة البعض، وأرسى طقوسها فيهم، وأحسبني من هؤلاء، وصدى ما أشير إليه، يترجمه الكاتب الأردني إبراهيم نصر الله وهو يقول:» لكن تلك العزلة، كانت البداية التي لابد منها ..البداية التي لو لم يمتلكها المرء لما استطاع الوصول إلى ما تلاها:
قد تصل جزيرة.. !تركب البحر
قد تبلغ واحة..!تعبر صحراء
قد تبلغ نفسك..»!تسكن العزلة
إذ اخترت من العزلة سكنا بل وطنا، عثرت فيه علي بين شساعة تضاريسه، ليصبح الحجر حجر أساس وليس حجر عثرة، خارج سياج الملل والتكرار، أعددت شهادة سكناي، بنقل مقر إقامتي الصحية وغير الجبرية ، إلى أراض تدعوني إلى اكتشاف خباياها، وزرع تساؤلاتي وحيرتي بتربتها الخصبة، لم تكن تلك الأراضي إلا مطالعات لكتب مختلفة (« حين تركنا الجسر» لعبد الرحمن منيف، «عش الطائر المتوحد» أبو يوسف طه، «خورخي لويس بورخيس، أسطورة الأدب» ترجمة محمد آيت لعميم..) ، كنت قد أجَّلْتُ قبل الحجر قراءتها مرارا وتكرارا، لتظللني أثناء الحجر بسمائها ونحن نستجيب لنداء « بْقى فْدارك…» وتحررني من وحدة ظننتها ذات زحام حياة طبيعية..
أستحضر هنا تعبير فرجينيا وولف عن حاجتها الملحة للعزلة التي تعيدها إليها، إذ تقول:» أنا في أشد الحاجة إلى العزلة، أحتاج أن أشعر بانتمائي لنفسي، مؤخرا بدأت أقتنع تماما، بأن القراءة هي حياتي الأخرى السرية، وملجئي الشخصي الذي أهرب، إليه دائما»
هكذا استوطنتُ خزانة كتبي الصغيرة، رتبت محتوياتها، وجعلت كل رف منها يحمل كتبا لجنس أدبي معين، كالشعر، القصة بنوعيها، الرواية، والمسرح ..
وأنا أستحضر قول الأديب « سعد الله ونوس»
« في الكتابة نقاوم الموت، وندافع عن الحياة»
عدت أيضا لاستكمال نصوص مؤجلة، كضم بعضها إلى مجموعة قصصية هي قيد الطبع، موسومة ب» تاكتيك» وهي قصص قصيرة جدا.. واستئناف تنقيح مجموعة أخرى ( لم أحدد لها عنوانا بعينه بعد) إذ تضم نصوصا مستمدة من رحم تعايشي مع الجائحة ، نُشِرت بعضها بمواقع إلكترونية، وأخرى بمنابر إعلامية وطنية ..
بذلك، وبأشياء بسيطة أخرى، حاولت أن أجعل من العزلة مسافة أمان، كان لزاما علي اتخاذها حاجزا بيني وبين الاتجاه الخطإ، وأنا أضخ دما جديدا متجددا يؤهلني إلى خوض السفر إلى الذات والاستماع إلى صوتي بوضوح.. وتوقيت ساعتي الحائطية يشير إلى تحليقي بزمن لا يعترف بتواجد خط غرينيتش على أرضي..


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 06/05/2021

أخبار مرتبطة

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان…

لو تعلق الأمر هنا بمقاولة ناشئة كاليفورية صغيرة تلعب دور مصاصي الدماء ( Ambrosia )، ولا بمظاهر خارقة ( Nectome

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *