عام من العزلة – 24 – زهور كرام: حركة في التفكير والتأمل

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

كان العالم يتجه بسرعة شديدة، يُحول الحياة إلى زمنٍ يكاد يفقد ذاكرته تدريجيا. قبل أن يتم تثبيت الشيء، يكون الشيء قد تلاشى بسلطة السرعة.
هكذا، أدخلتنا التكنولوجيا بثورتها في زمن السرعة الفائقة، التي تُلغي أو تكاد زمن العودة إلى الذات، وتخنق سعة التأمل. انخرطنا في زمن السرعة التكنولوجية، وكلما ظهر تطبيق أو وسيط تكنولوجي جديد، ارتفع إيقاع السرعة، وتحول الحاضر إلى زمن المستقبل. ربما، لم نكن نشعر بما تُحدِثُه فينا السرعة، لأننا عندما نكون قلب الحالة، لا نرى الحالة. أكيد، كان التفكير ينشغل بقضايا التكنولوجيا والسرعة وتحدي الذاكرة الطبيعية، والسعي إلى فهم ما يحدث حولنا، ويدخل ذلك في إطار ممارسة التفكير المعرفي الذي يتخذ مواضيع للتأمل، غير أن الذي حدث مع وباء كورونا وما فرضه من شروط العزلة والحجر الصحي و التواصل والعمل عن بعد، قد كسر -إلى حد ما- سرعة السرعة السريعة، و ألقى بنا في سؤال جوهري حول علاقتنا بذاتنا أولا، وعلاقتنا بما يحدث حولنا ثانيا.
كغيري عشتُ تجربة استثنائية. أصفها بالاستثنائية لأنها لم تكن قرارا ذاتيا، أو خيارا فرديا، إنما أُجْبِرْنا على الدخول في هذه التجربة، و أن نعيش الحالة الاستثنائية، وندخل في تجربة ليس فقط مع الوباء وشروطه، إنما ندخل تجربة تحدي مكتسباتنا وإلى أي حد تستطيع تلك المكتسبات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أن تكون سندا إيجابيا لنا زمن العزلة وانتظار المجهول.
ما جعل هذه التجربة تحديا للذات قبل كل شيء، أننا عشناها ومازلنا دون أن نعرف نهايتها. بمعنى، لا ندري متى ينتهي زمن هذه التجربة، أو كيف ستكون نهايتها، بل إن استمرارها المفتوح على كل الاحتمالات، عمّق التجربة.
ربما هذا بعضٌ مما انتابني وأنا أنخرط في زمن العزلة المفروضة مع الوباء. غير أني لم أظل حبسية هذا الإحساس، إذ سرعان ما حولت التجربة إلى زمن للتفكير وإعادة بناء المعنى مما يحدث. وأعتبر أن المشتغل في الثقافة والمعرفة والبحث العلمي، ومن يعمل في منطقة الرموز مُهيأ للتعايش مع أي وضعية كيفما كانت، لكونه يمتلك أدوات القراءة والتفكيك والتحليل، ولأنه مرتبط باستمرار بالتفكير في مواضيع وقضايا والتفكير فيها من منطلق البحث عن المعنى أو إنتاج الإدراك.
كان زمن العزلة فرصة جيدة للإقامة في زمن التأمل الذي يحتاج صمتا حد السكون، ومسافة عن الضوضاء، ومراجعة المفاهيم بإعادة ترتيب دلالاتها. عوض الحركة في المكان، أنجزت حركة في التفكير والتأمل، وأنجزت مشاريع بعضها كنت بدأته من سنوات دون أن أجد الوقت لإتمامه، والبعض الآخر كان نتيجة التأمل في ما حدث للبشرية مع وباء كورونا الذي أرغمنا على الاستمرار في الحياة بطرق غير مألوفة، وفرض علينا شروطه التي جاءت وصايا تُلزِمنا بالامتثال والخضوع لأوامر الوباء.
ولأني أشتغل في قضايا الثقافة التكنولوجية، وتأثيرها على حياتنا وعقلنا، فقد حولتُ العزلة إلى زمن للتأمل في المعنى الجديد الذي بات يُحدد وجودنا وحياتنا مع هيمنة سلطة التكنولوجيا، وقد دعم انشغالي بهذا المجال طبيعة حضور التكنولوجيا زمن الوباء، فقد فرضت وسائطها، وقدمت خدماتها بسخاء كبير تحت شعار الإنقاذ. كنتُ أجد متعة كبيرة وأنا أشتغل في موضوع التكنولوجيا وكيف تُحدث تغييرات كبيرة في الحياة، وتجعلنا ننتقل من حالة إلى أخرى، ولعل الإحساس بالمتعة قادمٌ بالدرجة الأولى من كوني أفكر في موضوع أعيشه. وهذا كان أكبر تحد لتفكيري. أنتج زمن العزلة عدة مشاريع منها صدور كتابي «الإنسانيات والرقميات وعصر ما بعد كورونا» عن دار فضاءات بالأردن، وهو كتاب يناقش سلطة التكنولوجيا وهيمنتها على الحياة والإنسان، وتحليل هذه السلطة التي تفرض تحديا كبيرا على الإنسان، كما أنجزت العدد الرابع من مجلة «روابط رقمية» حول « التكنولوجيا وكورونا» وهو عدد سيرى النور قريبا، وقدمت عدة محاضرات وندوات عن بعد .
كانت العزلة فرصة للعودة إلى مخطوط رواية لم تكن منتهية، حرك زمن العزلة مع الحجر الصحي عالمها، وأعادني إليها بروح الدهشة التي جعلت المخطوط حالة روائية تستجيب لزمن التجربة الاستثنائية. عندما انتهيتُ منها وأعدتُ قراءتها، تفاجأتُ، لأن المخطوط ظل سنوات قيد التكون، وعندما دخلتُ زمن العزلة، تكسر القيد، وكانت الرواية بطعم الحالة الاستثنائية. تجربة مختلفة في الدهشة.
ولأن زمن العزلة لم يكن قرارا ذاتيا، أو موضوعا مُفكرا فيه، فقد وضع الذات في تجربة استثنائية. وهي التجربة التي جعلتني أعيد ترتيب أولويات الحياة، وأعلي من شأن القيمة للحظة فرح قد تكون بسيطة جدا غير أن إضفاء القيمة عليها يرفعها إلى مقام الخلود، وكيف يتحول الارتواء بجرعة ماء إلى إحساسٍ يُنعشُ الذات فتثمر أزهارا، و ضربة شمس عابرة تُوقظ الشعور بالفرق بين النور والظلام، كل شيء يُنبت الجمال فينا عندما نمنحه القيمة.
استثمار الحياة قيمة لم تكن اكتشافا زمن العزلة، بل كانت تذكيرا وتثبيتا لِما ينفلتُ منا زمن السرعة، والتلاشي في الفوضى.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 12/05/2021