عام من العزلة -26- محمد الحاضي : في الحاجة إلى هذا العقد الكوروني المستجد

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

هو عام من العزلة نعم، لكن ليس بوتيرة واحدة..وليس بنفس « الحصار»..ولعل المرحلة الأولى من زمنية الوباء (الممتدة من شهر مارس 2020 إلى شهر غشت = عيد الأضحى وما بعده) هي التي انطبعت أكثر بميسم العزلة والحجر العام، بشبح الموت الجماعي) الموت المرئي واللاّمرئي، المحقّق والمتوقّع، أقسى وأفظع ما كان في موت الحجر هو انتفاء طقوس الوداع، هو ترك الموت وحيدا يرحل إلى منتهاه، هو لوعة الميت والحيّ معا..)، بالصور البطولية لرجال السلطة والصحة في فيلم قياميّ يومي، بالمواقف والتعابير الساخرة التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي نكتا وصورا..بآراء وتحاليل علماء الأوبئة والطب والنفس والاجتماع، والمؤرخين والفلاسفة، وغيرهم.
في المرحلة الثانية، حيث رفع الحجر، جزئيا، وخفّت صرامة الأجهزة الأمنية، بتنا أمام نتائج مأساوية في عدد الإصابات وعدد الوفيات. لقد بدت المسافة بين المرحلة الأولى والثانية صارخة ومأساوية. وهي مسافة/مؤشّر سوسيوثقافي يمكن أن نقارب (ونقيس) به مدى رسوخ ثقافة المواطنة والمدنية ببلادنا: فهل يمكن التّعويل على ترسيخ وإشاعة هذه الثقافة (في مجتمع لا يحرص حتى على حماية نفسه من هلاك متربّص..) بالسهولة والتلقائية التي يسلّم بها غير قليل من الحالمين والرافضين؟؟ ****
1- صحيح أن الوباء مسّ ويمسّ كل الطبقات والفئات الاجتماعية..لكن صحيح، أيضا، أن ظروف الحجر والعزلة ليست هي هي..بين إقامة فسيحة غنّاء..وبين بيت مملق لا خطوة فيه ولا كوّة..وبين لا بيت أصلا..وهذا خلل اجتماعي سابق على كورونا، نعم، لكن الأخيرة عرّته.. وهذا من أولويات التقويم والتدليل..
2- صحيح أن الوباء أصاب كل أبناء الله من جميع الديانات..لكنه (الوباء) لم يمنع متطرّفا من الدعاء لغير ملّته، ولم يمنعه من الإشادة بالوباء كونه من جند الله المجاهد..ولم يمنعه من الجحود في العلم والطبّ..ولم يمنعه من رفع سلاح الجهالة واللاعقلانية، حتى وهما يفضيان إلى الجحيم..بل وقد يكون يوم الساعة وهذا الجحيم متطابقين عند صاحبنا..آه..آه..لو كان الوباء قد عفا عن معتنقي ديانة ما لوحدهم..لزجّ بالبشرية في عنصرية دينية جديدة، بعد كل هذه العنصرية المستشرية..لكن الحمد أنه سبحانه رب العالمين..
3- صحيح، الوباء جعل أكثر من أربعة ملايير من ساكنة الأرض في (الدّاخل )داخل البيوت، ومع ذلك صرنا أمام (خارج ) رقمي فسيح يصل ويجمع شتات هذا(الداخل) في كل أركان الكوكب/القرية، وهو سياق تواصلي سابق على زمن الوباء نعم، لكنه أمدّ هذا الزمن المحجور بالانفراج والتواصل والتبادل، وبيّن أن البشرية جمعاء في تبعية وتعالق متبادلين، وتاليا لا بديل عن التضامن والتعاون بينها في هذا البيت/الأرض.. بل هناك من اعتبر أننا «محجورون» ولسنا «معزولين» نمارس وحدة اختيارية لأجل حماية إمكانيات الحياة..(ذ فتحي المسكيني.ج الاتحاد الاشتراكي ع12.821 -17 /18 أبريل ص 06 ) أو لأجل « استراتيجيات البقاء على قيد الحياة» كما بتعبير ذ إدريس بنسعيد.
4 – صحيح، الوباء مسّ كل الأنظمة السياسية، الملكية والرئاسية، الديمقراطية والمستبدة والبين بين، لكنه لم يمنع التّمايز والتمييز بين نظام وآخر، بين رئيس يأمر بإطلاق النار في وجه (الخارجين)..وآخر يجنّد ثروة سخية لمواطنيه لمواجهة الآفة.. وعاهل يستنفر كل ممكنات العون والمساعدة لشعبه..حتى وقد ارتسمت في بلادنا ، خلال هذه الظروف، ظاهرة غير صحيّة تمثلت في صدارة أجهزة الدولة التقنية والتدبيرية، وتبخيس المؤسسات السياسية، من برلمان وأحزاب ونقابات..(كما بملاحظة ذ إدريس بنسعيد (أسبوعية الأيام ع 923 من 3 إلى 9 دجنبر 2020 ص 09 )، على اعتبار أن هذه (الصدارة) وهذا (التبخيس) هما، بالوعي أو بدونه، سياسة..بل وسياسة فعّالة راجحة..
5 – صحيح، الوباء جائحة عابرة للأوطان، لكنه لم يبخل على شعورنا الوطني المغربي، كهمّ وكمسؤولية وكمكتسب وجداني جماعي، بالاعتزاز والفخر بهذا المغرب الذي حقّق في مواجهة كورونا ما يضاهي الدول المتقدمة..وبشهادة بعضها، إذ صارت الكمامة المغربية الصّنع، نوعا وكمّا، مدعاة لحبورنا، سيما وقد سارت بذكرها ركبان الأوساط الفرنسية مثلا..لقد استطاع المغرب مع الوباء..وإذن بإمكانه أن يستطيع مع التنمية البشرية والصناعية والثقافية..فما الذي يمنع ويعرقل ممكنات هذه الاستطاعة؟؟. نحن، إذن، في حاجة إلى هذا (العقد الكوروني المستجدّ) ما بعد زمن كورونا..
– 6 – ظلت الأوبئة تداوم على التاريخ بتواتر زمني يطول ويقصر..وقد كانت مآسيها البشرية القيامية ممّا لا يمكن تصديقه اليوم. فرغم التهويل الذي يواكب هذه الجائحة اليوم، وهو مبرّر، أكثر، بآثارها السلبية على النمو الاقتصادي والتنمية البشرية، فإن حصاد موتها أضعف بكثير من تراجيديا جوائح الأمس.. بل قد يكون في مستوى أو أقل من حصاد بعض الأمراض اليوم..ويعزى هذا إلى أن التاريخ البشري اليوم، يوفّر وسيوفّر من العلم والمعرفة والوعي والوقاية والحماية والاتصال والتواصل..ما يحدّ من سواد و وابل الوباء مقارنة بالأمس..قلّما حلّت الجوائح بتاريخ القرن العشرين وما بعده، وكوفيد 19 هذا أول محكّ حقيقي لحضارة اليوم..


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 17/05/2021