ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
جائحة استثنائية تلوي أعناق البشر بلا هوادة وقد شددت سطوتها إلى أقصى درجات السرعة كي تعجل بإطفاء الأنفاس.
خوف من جبلّة أخرى لا عهد لنا به أي الخوف من المجهول لأننا أبدا طيلة حياتنا، وعبر تاريخ البشرية، لم يتذمر أحد من قدرية الموت وحتميتها، ولا أقمنا يوما تظاهرات تنديد ضد الموت، أو شجبنا واستنكرنا فعل الموت . ولكن ونحن تحت سطوة هذا الزائر الشرس، أصبحنا نخاف من شيء مجهول، وهذا هو الأخطر، وكأن العالم يطوي آخر مظاهر الحياة مستعجلا الرحيل لموعد مباغت مع الأبدية والفناء، قبل أن تنهار علينا السماء.
أدركت خلال خلوتي الإجبارية أن الشجعان حقا لا يهابون الموت ، بل أدركت بما لا يدع كسرة للشك أن حتى الموت يخاف من الشجعان، فيتخطاهم بكامل أناقته وحذره وهو في طريقه لحصد المزيد من أرواح الآخرين.
حشرت نفسي في نفسي، ولذت بخلوتي، وتأبطت مسوداتي وحاسوبي وأوراقي، وعاهدت نفسي أن أنصب الفخاخ الوهمية لتجسير الفجوة بين البلبلة -التي أصابتني- واللامبالاة . إذاك وسوس لي شيطان الإبداع أن أخوض في مسودة روايتي القادمة، التي ظلت معتقة في قاع النسيان والتلكؤ أقلبها وأعيد ترميمها ، غير أنني تفطنت مبكرا، في لحظة تجل استثنائية، للعبة ألا أدمر صرح هذه الرواية التي إذا ما تجاسرت على إعادة قراءتها – من منظور ظروف وزمان الجائحة – سأدمرها بالتأكيد تحت تأثير القلق الوجودي الشرس، المتعدد المزالق الذي ينهش أفكاري ومخي وكل كياني ، وإن أنا أعدت التسكع بين فصولها، فأكيد سأدمرها تدميرا، وأبدأ من جديد تعلم أبجديات الكتابة .لذا فقد فصرفت عنها النظر كلية وتركتها لحالها خوفا من أن تعصف بها زوابع الأفكار السلبية التي سيطرت علي، وتوجهت رأسا صوب تلك الرواية التي غلبتني أيام الرخاء ، فجثوت فوقها ألتهم صفحاتها ليل نهار، وكأني فعلا في حرب سرود استنزاف أو فعلا في” حرب نهاية العالم” لماريا فارغاس يوسا في صفحاتها السبعمائة وزيادة، وهناك ، غصت في تلك العوالم المتناقضة ثقافيا وجغرافيا ووجدانيا وفكريا بأحداثها الساخرة من السلوك الإنساني المروع ، والعالم برمته، فأمضيت صحبتها ، بداية الحجر، أوقاتا عصيبة، حيث ازدحمت بخلايا بدني الواهن المتهالك المنذور لشتى أنواع العلل ، مخلفات أفكار هذه الرواية الأسطورية المدهشة بتواطؤ مع مفعول الأقراص والمحاليل الدوائية التي داومت على التهامها، فأضرم فيّ – كل هذا المزيج – حمى تساؤلات عدمية جهنمية، فوجدتني في لحظة فارقة قريبا من التوقف كلية عن المزيد من اقتراف جرعات القراءة الزائدة، أو التخفيف من إيقاعها السريع وأقفز خارج دائرة القراءة وأن أتفرغ للاسترخاء والتأمل منتظرا حلول شيطان الكتابة.
تبين لي، باليقين المؤبد، أن المخيلة أضحت موصدة بأقفال وأغلال صدئة ، وأنها في الدرجة الصفر من التخيّل والإبداع ، قمت بتمارين تسخينية في مجال القراءات النقدية، التي عادة ما كانت تستهويني الإقامة فيها عندما تجافيني وتخاصمني القصة القصيرة . فكتبت نصوصا موازية لمجموعة من الأعمال الإبداعية المغربية التي كانت على رفوف الانتظار، حيث سبرت أغوارها واستكشفت مكامن الإبداع فيها فوقعت صريع غوايتها، فأثمرت قراءات، تبين لاحقا أنها كانت في مستوى الانتظارات.
أما عن المكان، فقد ألفيت مدينة الفقيه بن صالح، قد نامت نوما عميقا وكأنما أصابتها على حين غرة، لمسة ساحرة أخرست ضجيجها وأصواتها وحركيتها ودبيب أهلها، حيث كنت أصيخ السمع فلا أسمع إلا صمتا ضاجا بالخرس في كل أركان البيت وكل الحارة والمدينة برمتها، حيث هرعتْ لمركز الذاكرة ، من حيث لا أتذكر “مدينة النحاس” التي مسخت أصناما. ومن التأملات التي تقافزت متناططة على حافة ذهني، في هذا البيات السنوي الإجباري ، هو الخوف – من شدة وحدة العزلة والتقوقع وّالتشرنق “- أن أستيقظ يوما وأجدني، لاقدر الله ، قد تحولت، في مسخ كافكاوي مريع، إلى خرتوت أو كتلة لحمية، كدابة بلا قوائم .
غير أن النقطة التي زوبعت فنجان عزلتي، وأقبرت كل مظاهر الخوف والتوجس وانتظار المجهول، هي قصة التعليم عن بعد وما صاحبها من عجائب وغرائب وممارسات وسلوكات للتلاميذ تبدت للعيان بعدما كانت خبيئة الصدور.