ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
•هو عنوان أحدث نسخة من أفلام «جيمس بوند» الشهيرة التي كان من المنتظر عرضها للمرة الأولى في أبريل الماضي لولا وباء «كوفيد» الذي صار منذ عام تقريبا يحكم العالم. الفيلم انتظرته كما لو أنني أنتظر ضيفا يزور غبا، بعدما أقسم «دانييل گريغ»، ألا يلعب دورا آخر في السلسلة الشهيرة حين ذكر في حوار سابق أنه يفضل أن تُلوى يده على أن يلعب دور «جيمس بوند» مرة أخرى. لكنه تراجع على ما يبدو. المغنية الشابة
«بيلي أيليش» أصدرت أغنية «لا وقت للموت» بهدف الترويج له، أنصت لها وأنا أخترق الطريق المؤدي إلى العمل. على اليسار يمتد حقل يعد بشموس مضيئة لما سيكون لاحقا امتدادا شاسعا من أزهار عباد الشمس، وعلى اليمين نهر سبو ولقالقه التي لم تتعب يوما من التحليق على ارتفاع منخفض لتأخذ استراحة قصيرة أعلى الأشجار، أشيح ببصري بعيدا، ستكون هناك رحلات كثيرة ذهابا وإيابا وسأستمتع بالنظر إليها متى أحببت. قُرر الحجر الصحي فجأة ولم أعد في اليوم الموالي إلى ذلك المنظر الرائع الذي نادرا ما يحدث، حقل عباد الشمس يقابل نهرا تحج إليه اللقالق، حدث الحجر الصحي عبر أنحاء كثيرة من العالم وصرنا سجناء بيوتنا. كان علي أن أفهم أن تأجيل الأشياء التي تسعدنا خطأ فظيع، وصرت مشدودة إلى فكرة مخيفة مفادها أن الأمور ظلت إلى وقت قريب تسير وفق ما خطط لها : النهر الساكن الذي يعرض صفحته الفضية الساحرة، اللقالق تطير وتحط، الممثل يردد ألا يلعب دور «جيمس بوند» مرة أخرة، ويتراجع، والفيلم الذي حدد موعد عرضه في أبريل الماضي في القاعات العالمية وصاحبة «عينا المحيط « بيلي ايليش» تصدر الأغنية قبل ذلك كله. هذه ذرة من ملايين الخطط التي لم تتحقق بسبب الوباء الذي سيأخذ نفسه في نزهة حول العالم ليسلو بحياة الملايين من البشر، ويقلب الطاولة في وجه الجميع. سنلج تجربة جديدة كليا، أغلبنا لم يعش مثيلا لها من قبل، وربما من الآن صارت لدينا حكاية محترمة يمكننا أن نسلي بها أحفادنا مثلما حكى لنا أجدادنا عن عام «البون» وأيام الطاعون، كنا ننصت إلى تلك الحكايات ونحن في مرتبة بين التصديق و التكذيب والشك في أن تلك أشياء حدثت بالفعل. لعل أحفادنا سينزلون المنزلة نفسها، ولا يصدقون أنه في سنة ألفين وعشرين توقف العالم كليا وحبس الناس بين جدران منازلهم، كانت مشاهد شوارع المدن العالمية عبر الشاشات وهي خالية على عروشها من نيويورك إلى لندن حتى ساحة جامع الفنا في مراكش مخيفة، جلبت لنا مزيجا من الدهشة والحزن، يكاد المرء لا يصدق ما حصل، أن يدخل العالم أجمع في ما يشبه السجن الإجباري، بسبب وباء جديد ينتقل بين الناس بسرعة مخيفة عبر التنفس واللمس… ستحجزنا كورونا مثل أطفال قاصرين عاجزين عن حماية أنفسنا. ملأت الكمامات نصف وجوهنا، وصرنا نطابق وصف الشاعر توماس ترانسترومر: «بشر لهم مستقبل عوضا عن وجوه». حتى أن هناك شكوكا في ما يخص المستقبل.
بالتأكيد، كانت لدى أغلبنا خطط قبل الوباء ،الطيبون والأشرار على حد سواء كانت لديهم مشاريع وأحلام ليحققوها. حاولت بدوري أن أضع خططا لما سأفعله بكل ذلك الوقت الفائض داخل السجن الصحي، الكثير من دون شك، يمكنني قراءة الكتب التي ظللت لسنوات أحدق فيها على الرفوف وشيء من الحسرة يغمرني بسبب عدم توفر الوقت لها.
يتمنى الكتاب على الدوام عزلة طويلة لا يصيبها العطب من أي جانب، عزلة محلوم بها دائما لكنها نادرة الحدوث. ويرغبون على الدوام في المزيد من الوقت. حين فرض الحجر توفر الاثنان الوقت والعزلة. قضيت الأيام الأولى أمتص الصدمة، ثم بعدها استبدت بي رغبة شديدة في أن أقوم بما كنت أؤجله لضيق الوقت، الآن لدي منه ما يفيض عن الحاجة. بدأت بتصفح بعض الكتب التي تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، منذ الطفولة لم أقرأ هذا النوع الأدبي، لأننا نظن واهمين أنها تناسب الأطفال والمراهقين فقط، حتى إن الكثير من النقاد و الكتاب يعتقدون أن روايات وقصص الخيال العلمي توجد في منزلة أقل من الأدب بشكله التقليدي، لكن الذي يحدث اليوم هو أن هذا النوع من الأدب منذ فيلم «ماتريكس» وقبله أفلام «حرب النجوم»، يستأثر بملايين القراء عبر العالم. وفي الأخير وقع اختياري على مجموعة قصصية للكاتب الأمريكي «تيد شيانغ» عنوانها: قصص حياتك» كانت جميلة ومناسبة لأجواء الحجر والتعقيم المتواصل والمفرط لليدين وروائح المعقمات. أجواء تلك القصص كانت غريبة تلامس الخرافة. وقد تم تحويل القصة الرئيسية إلى فيلم تحت عنوان «الوصول». كانت تلك هي المرة الأولى التي تقودني فيها مشاهدة الفيلم سينمائي نحو قراءة كتاب، العكس هو غالبا ما كان يقع، أعتبر الآن الكاتب «تيد تشيانغ» اكتشافا حقيقيا.
القصة تحكي عن عالمة لسانيات تخترع لغة لتتحدث بها إلى الكائنات الفضائية التي ستصل قريبا من الفضاء. لقد حلم الكاتب بلغة كونية يتحدث بها العالم بأسره تُجنِّب الانسان الاصطدام بالآخر الناتج عن سوء الفهم، ربما لم يخطر بباله أن وباء كورونا سيوحد العالم ليتكلم لغة واحدة بها مفردات قليلة : تباعد، كمامة، تعقيم وحجر. فكرة اختراع لغة كونية ليست جديدة تماما، حلم الكثير من المفكرين بلغة واضحة للجميع يتحقق عبرها الفهم المثالي بين جميع الأعراق والجنسيات والكائنات. لغة تصف كل شيء بوضوح و شفافية ربما تحقق السلام والمحبة على سطح الأرض.
الكاتب «تيد تشيانغ» يتوق إلى لغة أروع من كل لغات العالم، بسيطة خالية من الفخاخ تجعله يفكر داخلها بتلك الأفكار التي يريد، ربما أصابه الملل من الكلمات مثل الشاعر ترانسترومر الذي سئم من الذين يعبرون بالمفردات، ورغب في لغة وليس كلمات.
قد تبدو قصص الخيال العلمي في ثيماتها وأجوائها وحتى شخوصها أبعد عن الواقع بمسافة سنوات ضوئية، بعد التوغل في أحداثها وتأمل مآلات شخوصها الخرافيين يغادر القارئ بالفعل العالم الذي يعيش فيه ويستوطن آخر. أدب الخيال العلمي بأدواته المعروفة لديه القدرة على جعلنا نسافر من عالم إلى آخر بسرعة الضوء ونصدق ذلك ثم نذعن لما لا يمكن تفاديه، ربما هذا ما كنا جميعا نحتاج إليه حين قرر الحجر الشامل، أن نستسلم كليا لما حدث مهما كان لا يصدق. لحظات القراءة في قصص «تيد تشيانغ» مفعمة بالعاطفة والدهشة والافتتان. ربما يقع بداخلها الكشف التام لحقيقة ما ولو كانت تلك الحقيقة صغيرة جدا ومؤقتة مثل ذبابة مايو عمرها يوم واحد.