عباس بن فرناس يحط بحاضرة فاس 4/4

لم تكن فلسطين غائبة من « أجنداتنا «، ولم نكفَّ يوما عن إيلائها الصدارة في نضالاتنا، واستحضارها بالنشيد والهتاف والأغاني، والنقاش الحامي. كانت جرائد ومجلات، ومنشورات منظمات التحرير الفلسطينية فتح، كما الجبهة الشعبية لحَبَشْ، والجبهة الديموقراطية لحَواتْمَة، فضلا عن عُقُلٍ وكوفيات فلسطينية، وحوامل مفاتيح وأقلام، وغيرها، تحتل ركنا من أركان الكلية، وبالتحديد ركنا معتبراً بحذاء حي الطالبات الجامعي، والممر المفضي إلى المطبخ العام. كما أن الأشرطة الغنائية، ودواوين شعراء الأرض المحتلة: ( توفيق زياد ـ فدوى طوقان ـ معين بسيسو ـ سميح القاسم ـ محمود درويش )، تملأ البساط المشمع، ويفرش الفائضُ منها رقعةَ الأرض.
فلسطين، مثلما قضايانا الوطنية العالقة والمغيبة كغياب العدالة الاجتماعية، وتدهور القطاع الحيوي جملة وتفصيلا مثل التعليم والصحة، وترَدّي الخِدْمات الاجتماعية، وانتشار الرشوة، والمحسوبية، والظلم الاجتماعي، وتَغَوُّل طبقة هجينة صارت تزحف زحفا، وتأكل الأخضر واليابس أكلا، وفي جملة واحدة: غياب الديموقراطية؛ كانت في مقدمة همومنا القومية والسياسية والإيديولوجية، بل، والوجودية. فقد اعتبرناها المشكل المستشكل وطنيا وقوميا وقاريا وكونيا. ومن ثمة، تَبَنَّكَتْ مكانا أثيرا في نضالاتنا وحساباتنا، ومقايضاتنا للحكم محليا، وللرجعية التابعة وطنيا، والممتدة عروبيا. وكنا نعتقد بل نؤمن بأن تحرير الوطن العربي ودمقرطته، يمر عبر تحرير فلسطين، وبناء دولتها الديموقراطية على كافة أرضها التاريخية.
ولم نكن ـ نحن الطلبة ـ بِدْعا بين طلاب وقادة ونخب، ومناضلي العالم العربي، وأحرار العالم، في حبنا لفلسطين، وعدِّها هَمّا وهاجسا وقضية نضالية ذات أولوية كالقضية الوطنية تماما.
لقد تصدى للعدوان الإسرائيلي، والصهيونية العالمية، والأمبريالية، ووكلائها هنا وهناك، هؤلاء الذين أشرت إليهم كُلٌّ من موقعه: أصحاب أقلام غاضبة ومُنْصِفة، وحُبورٍ نارية وعميقة: شعراء، وأدباء، وقادة رأي، ومفكرون، وسياسيون قوميون، وديموقراطيون مقتنعون بالقضية الفلسطينية كمفتاح، متى ما حُلَّتْ، ومهادٍ لتحرير باقي الشعوب العربية من رِبْقة المحتلين داخليا وخارجيا.
نستدرج المحنةَ، ونستحضر آلام ومعاناة شعبنا الفلسطيني في النقاش الدائر بيننا، في « الكلامولوجيا «، وفي الانتصار لذاك الفصيل دون ذاك، وفي ترديدنا اليومي للأناشيد الثورية الفلسطينية، كعربون وفاء وإخلاص، وانتماء لها بقوة الجامع المشترك، وبمتانة الرابط العروبي، وببعض قضايانا الشائكة المشابهة لها. ولا يخفى أن الأحزاب السياسية الوطنية كحزب الاتحاد الوطني / الاتحاد الاشتركي للقوات الشعبية، وإلى حد ما حزب الاستقلال، جعلوا من فلسطين، ومن تحريرها، والتأكيد على أن الناطق الرسمي باسمها في المحافل الدولية، ولدى الأشقاء والأصدقاء، هو منظمة التحرير الفلسطينية، كما نص على ذلك مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في الرباط العام 1974، حَجَرَ رَحَى في مدوناتهم، ومواقفهم، وأدبياتهم ( نذكر هنا تمثيلا: أعمدة الشهيد عمر بن جلون المكرسة لفلسطين ). وجعلوها أحد مطالبهم في وجوب دعمها ماديا ومعنويا وبشريا، وسياسيا، وديبلوماسيا، وأدبيا. كما أن المنظمات اليسارية الجذرية، كَـ منظمة» 23 مارس»، ومنظمة « إلى الأمام «، و» الاتحاد الوطني لطلبة المغرب «، سيَّدوها واعتبروها رأس الرمح في التحرير والاستقلال من كافة أشكال القهر والغصب، والتبعية والانبطاح الذي كانت ولا تزال تعيشه أكثر الأقطار العربية. والجدير بالذكر أن هذه التيارات إنما ولَّتْ وجهها وفكرها، ورأيها وموقفها جهةَ الجبهتين الفلسطينيتين اللّتين انبثقتا، وتشكلتا كرد فعل على سكون وانتظارية منظمة التحرير: فتح، من منطلق تقديرها أن الأنظمة العربية الرجعية الخادمة والمتواطئة مع الصهيونية والأمبريالية، احتضنتها، وصارت تُمْلي عليها ما يُمليه عليها سادتُها في الغرب وأمريكا.
هكذا، اشتعلت المرحلة السبعينية بالدفاع عن المظلومين والمسجونين، والمنفيين، والمختطفين وطنيا؛ وبالدفاع عن أم القضايا العربية: قضية فلسطين. ولم يكن يخطر ببالنا، لحظةً، أن يمتد بنا العمر، فنسمعَ مثل هذا الكلام الخطير، كلام الجهل والغباء، والأنانية المقيتة: ( تازةْ قبل غزّة ).
فكان، مثلا، مثل هذا الشعر هو ما يرفعنا، ويوحدنا، ويقلص الجغرافيات ويطويها، ويصهر الآلام والأوجاع في وحدة جامعة، في حضن تاريخي قَدَري يسع الجميع:
ـ منتصبَ القامة أمشي //// مرفوعَ الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون /// وعلى كتفي نعشي
أو:
ــ خُذيني أمي إذا عدتُ وشاحا لهُدْبكْ
وغَطّي عظامي بعشبٍ تعَمَّد من طهر كعبكْ
وشُدّي وثاقي بخَصْلَة شعرٍ
بخيط يُلوِّحُ في ذيل ثوبكْ،
عساني أصيرُ إلهاً.. إلهاً أصير

وغيرهما من الأشعار والنصوص التي سالتْ داميةً باكيةً، ورَنَّتْ دامعةً شجيةً من عود وصوت الأسطوري الجميل: مارسيل خليفة.
وكنا نرى في مثل هذا الشعر، صدىً لجراحاتنا، وآلامنا وآمالنا. كنا نرى فيه ترجمةً صادقة، وتعبيراً حياً عَمّا كان يمور بداخلنا، ويعتمل حارقا لظيّاً كالمرجل في وجداننا، فسحبناه على وطننا، وإِنْ أبدلنا ألفاظا بألفاظ، وصوراً بصور اقتضاها السياق و» الخصوصية «.
ولك أن تستغرب ـ رعاك الله ـ من كيفية جمعنا باقتدار بين النضال والسجال، وبين العبث والعدمية والفوضوية والوجودية في منحاها الكولنسي ( كولنْ وِلْسُنْ )، ومنحاها البيكيتي ( صمويلْ بيكيتْ )، والأداموفي ( أداموفْ )، واليونسكي ( أوجينْ يونسكو ).
لك أن تقول: كيف تأتَّى لك أن تناضل، وتحمل كل تلك الهموم والمتاعب والأعباء الاجتماعية والوجودية، ثم تكون في الآن نفسه، عدميا عبثيا تؤله ألبير كامو، وتهتف بالحياة للبيتلزْ، والعدميين، ومُطْلقي اللِّحى، والمدمنين، والذين يعيشون على الهامش: أشباه أحياء، أشباه أموات الذين يسلخون أيامهم في معاقرة الخمور الرديئة، وتناول ماركاتْ وأنواع المخدرات السامة والمخلخلة؟
كان الشاعر الشاهق شارلْ بودليرْ، من جهةٍ مسانداً؛ مرجعَنا في طلب سحر الإبداع، والتماس الروعة فيه بالتعاطي للمخدرات، والأنبذة المختلفة: ( ألم يكن مدمنا وهو العبقري؟، ألم يكتب كتابا كله تمجيد وإغراء بتناول الحشيش والأفيون والماريخوانا « الفراديس المصطنعة «، فضلا عن كثير من نصوصه في ذات الموضوع بديوانيه: « أزهار الشر «، و» سْبْلين ْ باريس، سأم باريس «؟ ).
وإذاً، مَنْ نكون نحنُ حتى لا نقلده ولو يوما في الأسبوع؟. قلدناه، طبعا، لكن بتناول كرات عجائن عجيبة شديدة الحلاوة، لها مفعول السحر والجنون، هي « المعجون « الذي كنت مع بعض أصدقائي، ننزل في طلبه عبر أشجار ظهر المهراز حتى بوجلود، خفافا ظرافا نسابق الدقائق لنفوز بطريدتنا / حصتنا، حيث ينتظرنا أبّا البشيرْ.
لا أقدر أن أصف ما كان يعترينا حين نأكل شريحةً منه. مختصر القول: إننا نَنْطادُ، نخرج عن قوانين الطبيعة والفيزياء، نصبح غير ما نحن. تتعطل الجاذبية فنطير. نضحك ضحكا متواصلا من دون سبب حتى نلفت إلينا الأنظار. ثم نصمت صمت المشدوه المبهوت المصعوق أمام كوبرا ملكية قاتلة، ولا نجيب من يسأل ما بنا، أو يطلب منا حاجة نقضيها. وقد نذهل تماما عما حوالينا، وقد نضحك فجأة ثم نبكي. فكأن اختلافنا إلى أبّا البشير، كان ترياقا لنا، وسانحة زمنية قصيرة نهرب فيها من رَمْضائنا، على الرغم من المحنة والخَبالِ اللذين يعقبان تناول العجينة الفانطستيكية..اا.
وكانت الأنبذة تغرينا، نتذوقها أحيانا كالنصارى، ونشربها أحيانا وَفْقاً لطينتنا وجِبِلَّتنا بدعوى الانشراح، والتحفيز على النقاش، ونبذ الخوف والارتباك عندما يحين وقت « الجد « النضالي، والهيام بطالبة ما، واستنزال نص شعري من آلهة الأولمب، أو جلبه من وادي عبقر. ولعلها أن تكون ( أقصد الأنبذة والحشيش )، وراء ضياع بعضنا، وسَوْقِه إلى العربدة، ثم إلى الإدمان، والخروج عن السطر، وعن « الصراط المستقيم «، مما يبعده عن الدرس والتحصيل، والحضور الواعي مع فصيله الذي ينتسب إليه.
في الصحو، نكونُ، تماما، نحنُ: شراسةً في طرح القضايا، وتفكيك المواضيع، والآراء المضادة، تارةً، ووداعةً وحكمةً في استدراج واستقطاب الطلبة والطالبات إلى هذا الصف النضالي أو ذاك، تارةً أخرى.
ولعلَّ سائلا يسأل مستنكراً: أهكذا كنتم، ولا زلتم يا مَنْ تَدَّعون النضال، ومطارحة القضايا الجسام؟

( يتبع )


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 15/10/2021

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *