على هامش ندوة «في ما بين الفلسفة والأدب» بكلية الآداب بنمسيك الدار البيضاء ..
فتحت شعبة الفلسفة بوابة الأدب 23 و24 مارس 2017، وبالمناسبة – حسب ما أعتقد – تكون شعبة الفلسفة بهذه الكلية أول من طرح موضوعة الأدب في ندوة وطنية حول الانتاج الأدبي لعبد الإله بلقزيز. ألا يمكن اعتبار هذا حدثا تاريخيا وأكاديميا في المغرب؟ ثم أليس هذا الحدث انفتاحا للفلسفة على صنوف الإبداع؟ كيفما يكون الحال فالانتباه إلى أحد أعمدة كلية الآداب، والبحث الأكاديمي مسألة لافتة في سياقنا الثقافي المغربي ليس لأن الندوة العلمية تفيد الاحتفاء به. وإنما تؤول إلى الاعتراف بكتابنا ومفكرينا المغاربة. لا أحد من المشتغلين بالمغرب الثقافي يستطيع إزالة قاعدة مخبوءة في بلازما الذاكرة الجماعية، وهي أن المغاربة جاحدون، وكأن الجحود هو الذي يتلبس الجميع، أو هو المرق الذي يسقي به المغرب الشرفاء والمناضلين، والمبدعين والمفكرين … إلخ. إلا أن الندوة العلمية خرق لهذا الذي يغطي الجميع. وكأن الاعتراف بشخصية ما يتطابق ضمنا وصراحة برأسمال رمزي وجب الحفاظ عليه حتى لا يضيع في المؤقت المغربي. ربما أننا نتلقى خبرا هنا أو هناك يفيد الاعتراف بشخصية فريدة في ثقافتنا المغربية إلا أننا لم نرسخه تقليدا اعتباريا في زمننا. قد يكون المغاربة مشدودين بالنسيان، أو على الأقل قد يكون النسيان قهوتنا الصباحية، والتي نرشفها كي ننسى. وفي سبيل ذلك تظهر منارة مضيئة في هذه المدينة أو تلك. ولكيلا ننسى وجب على الجميع دولة ومؤسسات المجتمع المدني تخليد مفكرينا ومثقفينا … إلخ. بوضع أسمائهم على الشوارع والساحات العامة ومؤسسات جامعية ومدرسية وشبابية. .
إن هذه التسمية دالة على حفظ الذاكرة والاعتراف بالمجهود الفكري والرمزي الذي خلفه في حياته وليس هذا – في نظرنا – إلا النزر القليل مما قدمه هذا أو ذاك.
في زيارتي الصيفية لبعض الدول الأوربية لاحظت هذا بوضوح تام حيث نجد زيارة هذا المفكر أو الكاتب إلى مكان –فندق او منزل– في القرن 18 واستقراره به مدة من الزمن مؤرخة على بوابته، أو نجد هذا الاسم حاضرا بقوة في رسائل وكارتبوسطال، أو أشياء أخرى فما أحوجنا اليوم أن نقدم لهؤلاء الذين رحلوا، أو الذين لا زالوا يمارسون فعل الكتابة في وضعيات صعبة، وقامعة إلى اليوم هذا البسيط من اعترافنا الجماعي بمجهوداتهم وهذا لن يتأتى إلا بخلق جبهة وطنية من أجل تحقيق هذا المطلب البسيط. وإلى غاية تحقيق ذلك نحيي بحرارة شعبة الفلسفة على خلق تقليد نقدي، وجامعي منذ بضع سنوات حيث كل سنة تقيم ندوة فكرية حول أحد أعلام الفكر الفلسفي العربي، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، علي أومليل، محمد سبيلا، هشام جعيط، والطيب تيزيني وناصف نصار، ومحمد أركون ثم في ما بعد الاحتفال بالمفكر والكاتب موليم العروسي وتأبين القاص والباحث مصطفى المسناوي وها هي اليوم تضع الإنتاج الأدبي للأستاذ عبد الإله بلقزيز موضوعا للمسائلة النقدية والتأمل. وقد يكون هذا أول نشاط أكاديمي يكون فيه الأدب سؤالا نقديا في شعبة الفلسفة.
في إشارة ذكية للدكتور عبد القادر كنكاي/عميد الكلية قال فيها إن صرامة عبد الإله بلقزيز مع طلبته أعطته الاحترام والحب وكأن الأستاذ لا يبحث عن حسن السيرة والسلوك من أحد، فعمله الأكاديمي، وشخصيته القوية والصارمة وديمقراطيته اللافتة هي ما أضافت لحب الطلبة والإدارة قيمة مائزة. قد يطول بنا المقام في ذكر محاسن الرجل سواء تعلق الأمر بسلوكه وإتقانه لعمله بيداغوجيا ومعرفيا، ولكن أجلاها هو حضوره المكثف في المجال السياسي، والفكري والأدبي في العالم العربي ولأنه كذلك فليس علينا إلا احترام هذا الجهد باختلافنا، أو اتفاقنا مع أطروحته هنا يكون الاعتراف ضرورة، وتكون الضرورة ممكنة في المؤقت المغربي.
لقد قرأت أغلب ما كتبه الأستاذ بلقزيز، وتابعت مسيرته الفكرية منذ زمن بعيد بل أعدت قراءته في الآونة الأخيرة لذا أعتبر أن الناظم الرئيس في كتبه التي تجاوزت الأربعين هو طريقة بنائه لأطروحته فهو يهندس الموضوع بطريقة بيداغوجية عز نظيرها. حيث لا يستطيع القارئ سوى الإذعان لصرامته النظرية، في ضبطه للمفاهيم وكيفية تبيئتها في اللغة العربية وقراءته الرهينة لمفاعيل السلطة التي تسكن التاريخ والأفكار، والأهم هو الطابع الأرسطي أو الرشدي الذي يضع تحليله البنائي. وبالمحصلة فالنتائج التي يستخلصها من مقدماته الواضحة تنكشف في نسقيه واضحة. هذا دون ذكر اللغة العربية التي يتقنها بطريقة عجيبة إلى حد أن أحد الأصدقاء أخبرني أن لغة عبد الإله بلقزيز تنافح المتخصصين فيها. بل أكثر من ذلك أجد فيه مرجعا لغويا لأنه يصحح لنا مجموعة من الكلمات التي تعودنا نطقها خطأ ولحدسه الثاقب يقوم بشكل تلك الكلمات وهذا أمر يحسب من حسنات الرجل.
أما تدريسه الجامعي الذي يتميز به سواء من خلال الطريقة البيداغوجية التي يبني بها محاضراته أو من خلال الصمت المطبق الذي يفرضه داخل الفصل أو المدرج إضافة لاحترامه للزمن المخصص له وزيادته الطوعية لساعة أو ما يقاربها إذا اقتضى الأمر. إن احترامه للمواعيد مع أصدقائه وزملائه وطلبته هو ما يعطي للرجل الاحترام والتقدير.
إن الندوة المشار إليها سابقا والتي حفزتني للكتابة عن هوامشها تضعني الآن وهنا الحديث عما أسميه مشروع الندوة. أي حين كلفني / شرفني رئيس شعبة الفلسفة بتقديمه إليه. هنا بدأت أفكر في هذا الرجل المتعدد، أو ما سميته بـ « مفرد بصيغة الجمع « وهو عنوان الحوار الذي قمت به طيلة شهرين من سنة 2015 والذي تم نشره بجريدة الاتحاد الاشتراكي طيلة شهر رمضان من نفس السنة. هذا الواحد المتعدد الذي يطل علينا من ثلاث نوافذ: في السياسة، والفكر، والأدب. اخترت النافذة الأخيرة موضوعا للحوار، حيث شاكسته واخترقت عزلته انطلاقا من أسئلة تهم انتاجه الأدبي مثلما تهم رؤيته للكتابة والمرأة والأصدقاء والموسيقى وشخصيات تاريخية، ورمزية (ياسر عرفات، عبد الرحيم بوعبيد، جورج حبش، محمود درويش، مارسيل خليفة، عمر بن جلون وغيرهم … إلخ). هي موضوعات تكشف لنا مزاج شخصية الرجل، ولأن الندوة تحتفي بالإنتاج الأدبي لعبد الإله بلقزيز فإن السؤال الذي انطلقت منه هو كيف ينتقل من نافذة إلى أخرى؟ أم أن كل النوافذ تظل مشرعة؟ أي أن كل نافذة تقوم بتهوية جارتها حيث لا وجود لمساحة بينها سوى مساحة الزمن. زمن الكتابة ولأجرأة هذه الأسئلة وغيرها كانت الجلسة الأولى التي حضر فيها الأساتذة محمد نور الدين أفاية وتوفيق رشد ونبيل فازيو والذي قام بتدبيرها الأستاذ موليم العروسي الذي أعاد أسئلة الندوة من منطلق مغاير انطلاقا من فكر ما بعد الحداثة أما الجلسات الأخرى التي حاول المدعوون قراءة النصوص دون الحديث عن النافذتين السابقتين. وكأن النص هو موضوع المداخلة هنا نستطيع القول إن إبعاد صورة عبد الإله بلقزيز الفكرية والسياسية تمنح لتلك القراءات الحرفية والموضوعية. فالمشاركون (نجيب العوفي ، شرف الدين ماجدولين، وفاء مليح، نور الدين صدوق، إبراهيم اولحيان، عبد الرحيم تمارة، حسن إغلان، خالد بلقاسم، عبد الرحمان غانمي، عمر العسري ، محمد رزيق ،ابتسام براج، يونس رزين، خالد لحميدي، وعبد الإله دعال) قدموا بحوثهم من منطلقات نقدية مختلفة وهو ما أعطى للندوة فرادتها وللنصوص الأدبية فيضا في المعاني والدلالات لكن اللافت في الجلسة الختامية هو الصورة الأخرى لـعبد الإله بلقزيز حين قراءته لبعض النصوص من ثلاثية «رائحة المكان ، وليليات ، وعلى صهوة الكلام» حيث كشف لنا حرقة الكاتب ، وآلامه وأوجاعه إلى حد إغماض عينيه ربما لأن موسيقى الأستاذ بنعبد الجليل تحلق بنا في ملكوت المدرج والعينين المغمضتين لعبد الإله بلقزيز هذه بعض ما التقطته الحواس الأخرى من شريط احتفاء شعبة الفلسفة بأحد رموزها وما لم نلتقطه نتركه للذكريات والصور وما بينهما حضور العميد الأستاذ عبد القادر كنكاي في جميع الجلسات وهو أمر مائز في عرف الإدارة الجامعية. أقول للجميع شكرا للحضور والمشاركة والمتابعة، وأقول لعبد الإله بلقزيز شكرا لوليمة الكلام التي قدمتها للمغرب، وأضع سؤالا حول عدم حضور الاعلام السمعي والبصري إلى مدرج عبد لله العروي.