عبد الرحـيـم مــؤذ ن شــجــرة عــطـاء

 

ليس السخاء بأن تعطي ما أنا في حاجة إليه أكثر منك ، بل السخاء بأن تعطي ما تحتاج إليه أكثر مني .
*جبران خليل جبران

في غفلة منا الأصفياء يرحلون ، رحلة الزمن ماضية في السفر الأزلي ، انتبهت لذكرى رحيلك صديقي العزيز : عبد الرحيم مؤذن بهذه السرعة تسربت سبع سنوات، ولما زال صوتك يرن في الأذن ، وانتقاداتك وملاحظاتك تملأ سمعي ، ومن اللافت جلساتك الصباحية في إحدى المقاهي بمدينة القنيطرة ، كانت موزعة بين قراءة الصحف وتدبيج المقالات القصيرة السيارة التي ترسلها لجريدة « العلم « بشكل متواتر ، قبل أن نفترق وكل يقصد وجهته كنت تسألني عن آخر الأخبار الثقافية وما أقرأ من روايات وعن آخر الأنشطة ، كانت تلك مجرد فاصلة في يومك المكتظ بالأشغال ، وأن تتخلى عن سيارتك وتكتفي بدراجتك الهوائية ، حيث تزور أماكن الدهشة الأولى وتتبادل الحديث مع المعارف في حي الأطلس ، أو تأخذ مشروبا في مقهى شعبي ، كم كان يحلو لك أن تتأمل تلك الأماكن الحميمة القريبة إلى سويداء قلبك ، كنت مشدودا – حد الهوس –بالقراءة والكتابة والسفر ، واهتماماتك متعددة ومتنوعة ، لا يتسع لها وقتك ، وأنت بين بحث يكتب ويراجع ودرس تتقصى ضوابطه ومراجعه ، وقصة آخرى تروضك ، ومقالة تجذبك ، وحلم بسفر بعيد يوقظ فيك حجب استطلاع المكان والزمان ، فما قد يجتمع في المتعدد يختزل في عبد الرحيم ونظرته المتجددة للحياة. .
وفي صبحيات الآحاد كنت أهرول إلى شاطىء « المهدية « راجلا ، وكان يحلو لك التنزة وأنت تمتطي عجلة ، تصادفنا ذات مرة ، وخذنا في أحاديث شتى ، وتوقفت متنهدا وأنت ترنو إلي بنظرة غريبة ، وتسر لي بأنك تخاف الموت ، فكنت كعادتي أجيب ، الموت لا يخبر بزيارته المفاجئة والصادمة ، فلنحيا بفرح ونموت بفرح وكل مكسبك اللحظة التي أنت فيها ، ولم أدرك ـ زمنئذ ـ سر تفكيرك في الموت وأنت المقبل بعنفوان على الحياة ، لكن الوساوس الصحية ككرة الثلج بدأت تكبر ،وفرقت بيننا السبل ، حتى تم بيننا لقاء بمحطة القطار بالقنيطرة ، أنا عائد من معايدة أم أنهكتها الشيخوخة وأنت تنتظر قطار مراكش لتقصد صغيرتك بهية التي تشتغل هناك ، وكنت قد عفوت عن ذقنه وكست وجهك لحية قصيرة دكناء مذببة ، مرتديا جلبابا مؤقلما ، كان كلامك برقيا مقتضبا ، ، وشعرت بنزوعك التام للوحدة والإنعزال ، وكنت عادة ماتلكزني بالنقد والعتاب والسؤال عن فلان أوعلان ، لكن ياعبد الرحيم كم أنت ـ هذه المرة ـ فاترا وكاظما لألم ما ، خففت إلى قطارك وتواريت عن الأنظار زمنا ، حتى استشرى الورم الخبيث ، وعجز الطب والتطبيب وأدركك هادم اللذات ومفرق الجماعات وترحل جسدا لتبقى بيننا علامة ورمزا ، وقد شيدت – بسهر الليالي – عمارتك الأدبية والفكرية ، متنقلا كفراش باحثا عن صفاء الرحيق في أدب القصة وأدب الرحلة وأدب الطفل ، منتصرا لكل ماهو مغربي أصيل ، نابشا في متون التاريخ متقصيا الجغرافيات ، فلم تكن باحثا في الرحلة بل كنت مولعا بالسفر ، رحالة بدورك .
كنت كنهر سبو دفقا بالسرود القصصية ، مهتما بالصغار والكبار على حد سواء ، انطلاقا من نصك الفاتحة « ريالات خمس « إلى مجموعتك « طاحونة الملح « مرسخا وجودك في المشهد القصصي مع رفيق دربك إدريس الصغيرفي أضمومة « اللعنة والكلمات الزرقاء « من تقديم أستاذ الأجيال إبراهيم السولامي ، ويتواصل مد العطاء مع مجموعة « وتلك قصة أخرى « ، « أزهار الصمت « ،» حذاء بثلاث أرجل « ، « طاحونة الملح « ، فتنتك القصة القصيرة إبداعا ودراسة ولعل دراستك التي صدرت في جزأين من أقوى الدراسات في هذا المجال ، ولا يكاد أن يستغني عنها باحث « الشكل القصصي في فن القصة القصيرة بالمغرب « ومع دراسة ـ رديفة ـ لا تقل أهمية « معجم مصطلحات القصة المغربية « .
وعند أدب الرحلة وقفت مليا فمن « مستويات السرد في الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر « إلى « الرحلة في الأدب المغربي « ثم « أدبية الرحلة « وتوجت دراستك وتحقيقك بجائزة ابن بطوطة في الأدب الجغرافي سنة 2003 « الرحلة التتويجية إلى الديار الإنجليزية للرحالة المغربي الحسن بن محمد الغسال « .
وكم كنت مدركا بأهمية الكتابة للطفل بعلمية واقتدار ، ووضعت مجموعة من المؤلفات موجهة للصغار والفتيان ومن أطرافها كتب رمت عبرها الحديث عن طفولة بعض الكتاب ، لكي يستقي منها النشء العبرة والفائدة وقمت بجولة مسحية في طفولات : عبد المجيد بن جلون ، إدريس الخوري ، غسان كنفاني ، مبارك دريبي ، الطيب صالح ، نجيب محفوظ ، خناثة بنونة ، طه حسين .
وألفت للأطفال في المسرح والقصة وأدب الرحلة أذكر على سبيل المثال :» مغامرات ابن بطوطة للفتيان «، « رحلة ابن بطوطة الجديدة « حكايات شهرزاد « ، « السمكة والأميرال « وقد تمت ترجمتها للإسبانية ، « مغامرات الفتيان السبعة « وغير ذلك كثير يصعب حصره في هذا الحيز.
ناهيك عن تأليفك للكتاب الموجه للطالب والتلميذ والمسعف لدراسة الأدب وفي هذاالصدد نجد مقارباتك النقدية التعليمية لكتب : « الأدب والغرابة « لعبد الفتاح كليطو ، « قراءة ثانية لشعرنا القديم « لمصطفى ناصف ، « سهرة مع أبي خليل القباني « لسعد الله ونوس ، « محاولة عيش « لمحمد زفزاف ، « الرجوع إلى الطفولة « ليلى أبوزيد …
بدون أن أنسى مسارك المهني والعلمي الحافل الأيدي البيضاء ، انطلاقا من عملك بثانوية « النجد « بسلا ، وإحدى الثانويات بمكناس، وثانوية محمد الخامس بالقنيطرة ومن بعد ذلك التحقت بالمركز التربوي الجهوي لتكوين الأساتذة بالقنيطرة وبعد ذلك عملت أستاذا جامعيا بكلية ابن طفيل ، فإلى جانب كونك أستاذا محاضرا كنت نشطا في عدة جمعيات ومراكز باحث داخل الجامعة وخارجها ، من مسؤوليات داخل اتحاد كتاب المغرب ، ونشاط جمعوي دائب بمدينة القنيطرة وقد كنت الصوت المدوي المطالب المنتقد لكثيرمن أعطاب المدينة ، من مفعل لعدة أنشطة أدبية وعلمية في رحاب جامعة ابن طفيل ، التي مع كامل الأسف لم تنصفك لا أستاذا ولا باحثا وأنت من قيدومي هذه المؤسسة ، ولم تخصص لك تكريما أو يوما دراسيا يثمن أعمالك وليس من أخلاق العلم والعلماء الجحود والنكران لذوي الميزة والفضل .
حسبك صديقي العزيز قد عملت بحب وإخلاص ونكران ذات ، بما أملته عليك قناعاتك الفكرية والجمالية وحبك الجم لوطنك ، قضيت عمرك الجميل في المواظبة على العمل الجاد ، لقد كنت بحق شجرة عــــطــــاء .


الكاتب : المصطفى كليتي

  

بتاريخ : 29/07/2023