عبد السلام بنعبد العالي..اللوغوس وترجماته

إذا كان  اللوغوس الفلسفي يوناني المنشأ، فإنه غدا بابلي السمت والمٱل؛ فبعد أن تشكل في محاضن اللغة الإغريقية ونشأ في مدارجها، ألفى نفسه «يتبلبل» ، ويترحل ملء لغات العالم، وتستضيفه في غربته الممتدة سجلات وألسن وهويات شديدة المغايرة، بالغة الاختلاف. ولئن اعتبرنا فعل الترجمة، مع پول ريكور، ضيافة لغوية للغريب، فيستقيم القول بأن مناط الفلسفة والتفكير الفلسفي على براديغم الترجمة: فحين نتفلسف فنحن نترجم ، بصورة محايثة ومتعالية بٱن، من جهة أولى نترجم الحوار الجواني للفكر مع ذاته في لغة مفهومية تنأى عن لغة الدوكسا، كما نترجم من جهة أخرى حين نجوس جيئة ورواحاً بين لغة أو لغات أخرى نتوسلها في مقروئنا الفلسفي.
من هذه الزاوية لا يستنكف الفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي عن  القول ، في مقامات وسياقات متعددة، بأن الترجمة هي أم المسائل الفلسفية ؛ إن لم تكن هي قضية الفلسفة المفصلية والرئيسة. وعلى هذا النحو يعلن انتسابه إلى لفيف مائز من الفلاسفة الغرببيين المعاصرين الذين جعلوا من الترجمة محور تفكير فلسفي بعيد الغور ، سواء تعلق الأمر بالفلاسفة القاريين  من عيار والتر بنيامين وهايدغر وغادامير وبلانشو  وأنطوان بيرمان وديريدا وبول ريكور، أو الفلاسفة التحليليين من أمثال فتجنشتاين وكواين ودافيدسون.ولن نكون مسرفين في القول إذا رددنا مع الناقد الأدبي الألمعي عبد الفتاح كيليطو بأن كتابات الأستاذ بنعبد العالي حول الترجمة تعدُّ « أول دراسة فلسفية أنجزت  عن الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة»، بل إن الأستاذ جعل من نظرته حول الترجمة شأناً فلسفياً خالصاً تقاطع فيه سؤال الترجمة مع أسئلة أنطو- أنثربولوجية من عيار أسئلة الوحدة والتعدد والهوية والمغايرة والأنا والٱخر والأصل والنسيخة والإيقونة والسيمولاكر.
ولأن ديدن بنعبد العالي التبرم من النسقية الصارمة والتحلُّل من فكر النظيمة المغلق والمرتب، فإنه لم يكن ليتغيا في مقاربته للترجمة صياغة نظرية فلسفية محكومة بشرائط وضوابط؛إنما يحرص في المقابل على أن يسلس نظراته الفلسفية بذكاء لمَاح، وجسارة فكرية تأنس الاستغوار الفكري وتذهب بالنظر إلى حدوده الإشكالية القصوى .
ترتيباً على ذلك، لا يأبه بنعبد العالي بإثيقا الترجمة، ولا بشعريات التطابق المضمرة أوالصريحة بين لغة الانطلاق ولغات الوصول.إنه يؤسس ريطوريقا مغايرة للترجمة: ففي الوقت الذي يحرص فيه  سواه على التوسل بطهرانية مدخولة في ترجمة النصوص الأجنبية، يعتبر بنعبد العالي أن الوفاء لنصوص الانطلاق لا يستقيم إلا بخيانتها وهتك قداستها، والنفاذ إلى حقيقتها لا يتمُّ إلا بتبيئتها في كارتوغورافيات  غريبة عن مراتعها الأصلية، والقبض على مؤدياتها لا يستقيم إلا بإعادة كتابتها واستدماجها في ميثاق هيرمينوطيقي خلاّق. وبلغة العرفان، لا تحقق الترجمة الاقتراب من المتون المترجمة إلا  بالنأي عنها، وبمعانقتها في مناطق تأويلية بلورية ،بالغة الفلتان.
هناك وهم دارج بين المترجمين، يجعلهم يعتقدون أنه بمستطاع الترجمة الأمينة أن  تدلف إلى الوحدة من وراء تبلبل اللغات وتعدد الألسن وتنوع سجلات الكلام، وأن تقبض على الأصل من وراء ظلاله وسيمولاكراته الضالعة في التناسخ. والحال أن الاختلاف الذي ترعاه الترجمة ليس شراً مستطيرا ولا لعنة ، بل هو قوام الهويات وعنوانها الأشد بروزاً. وفي المقابل ثمة وهم شائع أيضاً بين الكتاب مؤداه أن  التراجمة لا يرقون إلى مقام الكتاب، ولا يتبوؤن متبأوهم الشريف الشفيف، ما دامت الترجمات، هي بحسب زعمهم، محض نقول ، ومادام الترجمان مجرد ناسخ ليس إلا. في حين أن الكتابة لا تستوي ككتابة إلا بما هي ترجمة، والترجمة لا تعطانا في حقيقتها إلا باعتبارها كتابة مغايرة منذورة للاختلاف.
يعتبر الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، شأنه في هذا الصنيع شأن موريس بلانشو، أن الترجمة لا تلغي الاختلاف بين اللغات في أفق تكريس ضرب من الوحدة والتناغم بينها. إنها تكشف أن كل لغة ، حتى أشدها تناغماً، هي محضن للاختلاف، وهي مختلفة عن ذاتها ، متشذرة ومتصدعة في ذاتها. ولعل القرابة الفكرية الرفيعة التي نسجها بنعبد العالي مع كتابات بلانشو  قد مكنته من النظر إلى الترجمة في أفق الكتابة  والاختلاف أو في ظل الكتابة المغايرة. في هذا الأفق تغدو الترجمة كتابة خلاّقة، وإبداعاً لا يقل وضاءة وألقاً . وترتيباً على ذلك، لا يعدم  المترجم فرادة أو أصالة أو تميزاً بالنظر إلى الكاتب؛ إنه بتعبير موريس بلانشو القيّم السري على اختلاف الألسن والمتعهد بتعدد اللغات، ومهمته لا تتمثل في إبطال هذا التعدد وإلغاء ذلك الاختلاف ، بل في استثماره على نحو يسبغ لبوساً  مغايراً على ما يترجمه، وبصورة يلبس فيها لغة الوصول تلوينات غير مأنوسة.
على هذا النحو، فحين يكتب الفيلسوف بنعبد العالي بلغته الراقية الراقية وبنَفَسه الفلسفي المجنح، فإنه لا يني يترجم، وحين يترجم فإنه يسمق بترجماته إلى مدارج الكتابة الخلاّقة التي يعانق فيها الأدب الفلسفة،ويلتحم فيها الاستعاري والمفهومي في بوتقة واحدة.

أستاذ جامعي


الكاتب : محمد الشيكر

  

بتاريخ : 14/10/2022