7
منذ إصداراته الأولى» الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي»(1982) وعلى امتداد الأعمال اللاحقة به، أخص بالذكر:» العين والإبرة» و» لن تتكلم لغتي» ثم « الحكاية والتأويل» ف» لسان آدم»، صدرت بالفرنسة ونقلت إلى العربية ـ ويا للمفارقة مؤلفها عكف على دراسة أمهات كتب الثقافة والأدب العربية، وكرّس سنوات لإعداد أول دراسة أكاديمية متقنة عن فن المقامات(1983، دار سندباد) ـ وعبد الفتاح كليطو يخطط المساحة التي قرر بوعيه الفكري أن يتخذها مضماراً لممارسة ما يراه ويفعله آخرون جدا ثقيلاً ويريده هو لعبةً ونشاطًا مرحًا موسومًا بالمراوغة والحِيَل، شأن ألاعيب الحُواة، والباحث الأديب المغربي من عشيرتهم وإن حاول إخفاء هذه الخليقة على جمهور كسبه من بداية اللعبة وصار مسحوراً به، آخر «فُرجة» له كتابه» التخلي عن الأدب» (منشورات المتوسط، 2023).
يحبّذ كليطو تعريف وتقديم نفسه بين أقرانه وأمام الجمهور بأنه قارئ بالدرجة الأولى، لا عن تواضع زائف، ولكن، تقديراً منه أن بضاعته محدودة، أي بضعة كتب، وهي فعلا أقرب إلى الدفاتر منها إلى المصنفّات، تشبه ما كان يضعه العرب القدامى ويسمونه» الرسائل» أي البحث في غرض ما يقابله في النثر الفكري الغربي نوع غالب اسمه»l’Essai «. وقد أناط بنفسه مهمة القراءة حرفة لتقوده في مراحل تكوينه الأدبي الجامعي ثم الشخصي إلى ما أضحى اليوم اختصاصًا له وليس سهلا تسميته لتعدّد مواضيعه وألوانه وتشعّب مساراته، يكاد غرضه أن يكون هما شكلُه ومنهجُه المتحولان باستمرار وخطتهما الاستطراد واللعب والاستقراء وتوليد الأسئلة ومواجهتها بالنقيض.
لم يكن أستاذ الأدب الفرنسي في كلية الآداب بالرباط منذ السبعينات يفكر في الأدب العربي، الكلاسيكي منه بالذات، وأي دليل أكثر من أنه أعد رسالته لدبلوم الدراسات العليا عن فرنسوا مورياك، وقضى وردة شبابه في تدريس «مدام بوفاري» لفلوبير، ويمنع طلابه في المدرج من الحديث بالعربية كي يرسخ تعليمهم وتتقوّى لغتهم الفرنسية. هل هي صدفة، أم انبثاقُ وعي كامن أن حوّل بوصلته إلى الآداب العربية، ليًعد أطروحة الدكتورة عن فن المقامات، ويقتنع تدريجيًا أن ليس له ما يضيفه إلى الدرس الأدبي الفرنسي له مختصون فيه أجدر منه، بينما تبيّن له أن الأدب العربي أحوجُ إلى رؤيته وأدواته، وهي العُدّة المعرفية الغربية ثقافةً ومنهجًا، ذهب إليه بها يقلّب تربته ويحرُث أرضًا بكرًا، هي السرد القديم بتراث لياليه وحكاياته وأخباره ، يزرع فيها بذور قراءة بفهم وتأويل جديدين.
خلافاً للدارسين العرب الأوائل ممن تتلمذوا في باريس على بارط وغريماس وجان جيني، لم يتشدق كيليطو، ونحن نشترك في «سمنيرات» ونتدخل في مناقشات أطاريح جامعية، ولا في الأبحاث التي كُلّف بإنجازها لمجلات محكّمة مثلا وموسوعات، وفي منابر أجنبية خصوصًا، بالرطانات الاصطلاحية المتداولة عند المتعلمة للسانيات والسيميائيات في الأوساط المغربية والتونسية، تُعسّر بدل أن تُيسّر وتُوصِل. كانت عينُه بعد أن تمثّل بضاعةَ القوم أن يعيد قراءة تراثنا السردي، وقبله كان محمد عابد الجابري قد شقّ طريق إعادة قراءة تراثنا الفكري، وكذلك عبد الكبير الخطيبي متوسلاً ثقافة فلسفية عميقة بين نيتشه وفرويد وجاك دريدا، وقبل هؤلاء سبقهم بورخيس من يمكن وصفه بالكاتب الجامع، اعتبر نفسه قارئًا، وهو قدوة كيليطو.
مناسبةُ التذكير وإعادةُ التعريف بصاحب» أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية»، كتابه» التخلّي عن الأدب» وهو يبعث على الرّيبة من عنوانه شأن أغلب عناوين المؤلف، تقول الشيءَ وتفيد وإمّا تنطوي على خلافه، فمرمى العمل تقَصِّي الخفيِّ والمستتِر وهو المعنى الذي يعطيه الباحث للغرابة لا ذاك غير المألوف، كان هذا نهج بورخيس وبارط ينبشان في الظاهر ويقتفيان الأثر، وكليطو سواء وجد المقتفي الذي حيّر بطل روبنسون كروزو أو لم يجده، معنيٌّ بالقَدَم، الأثر في حد ذاته، هو يبحث عن آخرَ فيها، هل أقول إنه يقرأ النصوص العربية بعين غربية لتشتبك نظرتان. من هذا المنطلق سيعيد اقتفاء أثر نصوص كبرى، دأبه التعامل مع الأعمال الكلاسيكية يبحث فيها عن مسألة لا يقول عنها صحيحةً أو زائفة، يطرحها فرضيةً وفي خُطى البحث فيها وتقليبها من وجوه شتّى يبلورها لتتقررَ وحدها أولاً أطروحة(التخلّي) ثم نقيضها في الوقت نفسه(عدم التخلّي) يسوق إلى التركيب، إلى أن العدم، التخلي المزعوم، هو براديغم أدبي آخر.
على طريقته، يعمد عبد الفتاح كليطو إلى تأليفٍ مقتضب، مبحثٍ صغير يقرِنه بلاحق في حلقات مترابطة وخفيّة، لنعلم أنه كثيرًا ما يخاطب القارئ ويستدعيه ويُشركه(اللعبة واللعب لا بد لهما من شريك)، ولنعلم أيضا أن شاغله دائما الأدب، وهو همّ المؤلفين الذين يدرُس والشخوص الشخصيات مدار وجودهم وبحثهم، خذ مثلا ضون كيخوطي دي لامنتشا بطل رواية ثرفانطيس الشهيرة، البطل المبتلَى بقراءة كتب الفروسية وستطير على عقله وتقوده إلى جنون تقليدهم ليقيم عالمًا مستمدًا من مخيالها زال، ينتهي إلى هلاك حتمي وحرق مكتبته، لاقتناعهما بأن الروايات تقود إلى الجنون، فيقتضي التخلّي عنها. ينشغل كيليطو باقتفاء أثر شخصية بن حامد الأيلّي الذي يقدمه ثرفانطيس المؤلفَ الحقيقيّ للرواية، بمثابة مخطوط عثر عليه في السوق واستأجر من يترجمه. يبدو هكذا كأنه يتخلى عن اسمه، وفي الوقت لا لأن الأيلّي هي في الفرنسية cerf وفي الإسبانية ciervoبمعنى واحد، لينصرف بعده إلى تأويل استيطان فكرة آخر(الأيلّي العربي العدو وهو ثيرفانطيس عدو ّنفسه، وإذن» ابن الأيلي عدو وحليف له) .
في فصل آخر يعمد الباحث إلى دراسة موضوع الأديب بطلاً. وصل إليه صدفة وهو يبحث عن حكاية عربية تَسخَر من الفروسية، نبَهه إلى أن جانبًا من موضوع السرد العربي وما يطرحه ويصفه يدور حول الأدب وشؤونه، عن أدباء يشتغلون بالأدب، يقصد الرفيعَ الفصيحَ مثل كليلة ودمنة لابن المقفع، و(البيان والتبيين) للجاحظ، المليء بالمساجلات الكلامية ومناوشات بين الشعراء. كذلك إن بطل المقامات أديب والرّهان فيها على الأدب، بطلها أبو القاسم الأزدي عند الحريري، وهو وضع ابن القارح بطل (رسالة الغفران). بطولة هذا الأخير ونصه مدينة لدانتي حين ترجمت إلى الإنجليزية فنالت شهرة واسعة، شأن حيّ بن يقظان بسبب كروزو، عقبها بدأ الاهتمام عربيًا بدانتي. في فصل (بخلاء وفلاسفة) يواصل البحث في وجوه الترابط الممكن بين أفكار الجاحظ وتمثيلاته وأخرى واردة في ثقافة شعب آخر، هذا الغير الذي يُعني دائما باستحضاره، ووجده عند سكان أصليين في غرب الولايات المتحدة يستعملون طقسا اسمه(بولاتش)أي الهديّة والهبة تستنفر هدية أكبر، وهكذا. يربط كيليطو هذا السلوك بما سجله الجاحظ من موقف بخلائه من الشعر يكتبون ضده، أو يحذرون منه، الأصمعي أحدُهم يقول إن» الشعر باب من أبواب البطل» والعلاقة هنا مع (البولاتش) متأتيةٌ من الشاعر الجاهلي يتباهى بعد شجاعته بالبذل في الكرم والإسراف في الخمر والقمار.
في سياق الربط والمقارنة بالغيرية دائما، يجد كيليطو ما يفترض ـ وما أكثرَ فرضياته – يجد لها ما يسوّغ أقنع أو لم يقنع ـ أنه علاقةٌ إضافية بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، ممثلة في الشّبه بين ابن القارح بطل رسالة الغفران، بضون كيخوطي، ولشخصية المعري سيرة طويلة ترسمُه مولعًا بالشعر وعلومه وميله للسخرية والمرح وجعله رسولَه إلى العالم الآخر دائمَ الافتتان بالشعر.
لنعد إلى فكرة التخلّي عن الأدب، إلى اختبار فرضيتها، وهي ما يستعيده كليطو من خلال سؤال سبق لبارط أن طرحه في محاضرة له بالكوليج دو فرانس:» كيف يمكننا التوقف عن الكتابة؟» وهو تدوير لمعضلة التخلي عن الأدب، لم يطرحه ضون كيخوط على نفسه فقد عاد إلى بيته بعد طول تطواف خاسرًا من مهمة محو المظالم ليخلَد للراحة الأبدية، وفي الوقت توّاقًا لفعل شيء آخر، قراءة كتب أخرى تلقي النور في عقله، أي أن يقرأ أدبًا جديدًا، هكذا فهو لا يتخلى، أو في تخليه نقضٌ للتخلي. كذلك الشأن عند المعرّي الذي أراد أن يصمت باعتزال الناس، ومنذئذ حدث عنده العكس، تطور شعره حين تخلى في (اللزوميات) عن الأنواع التقليدية اعتبرها مبنيةً على « المَين» وهو الكذب، وأراد هو الصدق. هذا كان عنده التخلي عن الأدب. والشعر التقليدي الذي عدّه أبو العلاء يرادف في مقامات الحريري الغشَّ والخداعَ الذي تاب عنه أبو زيد السروجي(تخلى) ليلتزم بخطاب الوعظ والذكر، وهو ما يعادل تنكُّبَ ضون كيخوط عن أدب الفروسية والتطلع إلى مناقب القديسين. يخلص كليطو إلى القول:» تنتهي مقامات الحريري بالتخلي عن الأدب باعتباره باطلَ الأباطيل(…) لكن التخلّي عن الأدب داخلٌ في مجال الأدب، يندسُّ فيه ويشكّل أحد مواضيعه، ضمنيًا وصراحة»(80).
في معالجته لهذا الموضوع يستمد صاحب» ولله هذه الحكاية لحكايتي» أغلب أمثلته من المتون الكلاسيكية العربية، مع مداخل وإشارات مقارنة غربية، لأنه يعتبر هذا تأهيله، وهو ما وقفت عليه لجنة جائزة الملك فيصل التي نالها هذا العام منوهةً ببراعته «في تأويل الأعمال السردية العربية القديمة، ورؤيتِه التي اتصفت بالجِدّة والطّرافة والإبداع «، ولا أعرف إن كان زميلنا الأستاذ كليطو قد انتبه إلى حجم دلالة ما جاء في نهايات كتابه المعنيّ به هنا، قولُه:» أحطت علماً بالأدب العربي الحديث، ولم يبق لي ما أتعلم منه»(95) وحكمه الجازم بلا تحفّظ بأن:» هناك قطيعة مطلقة بين الأدب العربي الحديث والأدب العربي القديم»(96)، لا مجال لمناقشة التلفظين هنا، حسبي التعليق بأنهما إعلان منه صريح عن التخلّي عن أدب (حديث) بزعم إحاطة تامة به، واستبداله بالبقاء فيه، مع السّلف، هو من قال ايضا إن سؤال» من أنا؟» يؤرّقه!