عبد الله العروي: إكليل الصناعة التاريخية الثقيلة 2/1


على سبيل البدء

يرتبط اسم العروي بمجرد ما يُذكر بتعبيرات تصنيفية من قبيل «القطيعة المنهجية» «مجاوزة الثرات» «الحداثة أولا وآخرا»، ليس أصحاب الاختصاص هم وحدهم من يُحيلون على هذا التصنيف، بل نجد لذلك صدى حتى من طرف الباحثين في مختلف أوراش العلوم الإنسانية القريبة من التاريخ، على ماذا يحيل ذلك؟ إن كان لا يعني سوى حيرة وتردد الباحثين من منجز العروي المنهجي والفكري والتخييلي، بله حدوث أزمة عسر الهضم لهذا التأليف التاريخي مبنى ومعنى. يتعذر في حالة العروي الفصل بين المشروع والعملية، بين الغاية والمنهج، بين التاريخ والمؤرخ، إنه الكل الذي يجب أن يقرأ في صيغة المتعدد، والتعدد الذي يجب أن يقرأ في صيغة المتفرد.
ما جدوى التساؤل حول مفهوم التاريخ في مدار حضاري ومجتمعي يكتنفه التجاذب حول من يمتلك سردية الماضي؟ أوَ ليس مفهوم التاريخ هذا الذي لا ينتفع به المؤرخ المحترف كثيرا، يُقاس بتغير ذهنيات المجتمع وبانغراس الوعي التاريخي، أكثر مما يُقاس به تطور الإسطوغرافيا التاريخية. هنا يتميز العروي عن مُجايليه، بجرأته على الحسم والاختيار، حسم بلا تردد أو مواربة، مسح الطاولة أو طي الصفحة كما يقال من أجل المشاركة في ما ليس منه بُد بعبارة امبراطور اليابان عشية هزيمة 1945م.
ماذا نفعل بماضينا؟ وكيف نُعامل تراثنا؟ مخيف هذا التعلق بالماضي، لست أنكر التقليد بوصفه حدثا، فأنا أدرسه كظاهرة، لكنني أنكره كقيمة، الشرط الضروري لأي تقدم قرين بالحسم، الحسم الذي نتكلم عنه وقع بالفعل في جميع الثقافات المعروفة لدينا، ابتداء من القرن 16 إلى يومنا هذا، وكأني به يستبدل القول المأثور «فليمت الأحياء من أجل أن تبقى الأفكار» بقول « فليحيا الناس ولتمت الأفكار».
الحق يقال، كتابات العروي شديدة الاتساق، جليلة الانتظام، لا مبعث فيها لفصل هذا عن ذاك، المشروع عنده هو الغاية لا منطق البناء، ألم يسبق له أن قال ذات مرة أن ما كتبه إلى الآن لا يعدو أن فصولا من مؤلف واحد يدور حول مفهوم الحداثة، مفهوم بلا مستقر وقرار، يلتئم من ميسم النسبية والإبداعية والشكية والتجديدية.
مشروع العروي يستند إلى ثلاثة مُوجهات نقدية: نقد المجتمع العربي، نقد الإيديولوجيا العربية والنقد الذاتي، مشروع يتوسل بآلية المقارنة والمقايسة، ليعكس المنطق الذي كشف به الفكر العربي عن وعيه بتاريخيته وتاريخانيته. يتدخل العروي بفصله بين المجتمعات التاريخية التي تنتمي إلى دائرة التاريخ والمجتمعات غير التاريخية، لا يتعلق الأمر بالتاريخ كوقائع تنتمي إلى الماجرى، وإنما بالتاريخ كممارسة، كمصير حضاري، كخلاص وجداني وحضاري، كقراءة للذات والآخر، التاريخ الذي يؤسس له العروي وينافح عنه في مختلف إنتاجاته الفكرية والتاريخية والروائية هو الوعي بتقلبات الزمن، بما هي تحول دائم وانعكاس في الوعي (الأدلوجة)، وقدرة على ربط الوقائع بأصلها التاريخي النسبي والمؤقت.
هناك مجتمعات تعيش التاريخ عفويا، تكتب عنه تلقائيا، تعتقد أنه في المتناول، قابل للفهم بدون وساطة، وأخرى تقع خارج دائرة التاريخ. المجتمع النقدي هو الذي يوازي بين الإشكالية النقدية والسرد التاريخي، حينما يشيع النقد داخل المجتمع تزدهر الصناعة السردية، ويمكن للمجتمع أن يتخلص من الأفكار المسبقة، من التفكير بالأمثال، من الاقتداء بتجارب وإنجازات الغير، ومنه يمنح لنفسه شرف الضيافة في التاريخ.

1- رؤية على الكتاب:

كتاب «مفهوم التاريخ» هو انشغال بالمؤرخ لا بالتاريخ، بذهنية التأليف التاريخي التي تسم مهنة المؤرخ، وليس التاريخ كسجل لحوادث ووقائع الماضي، التاريخ الذي يرافع عنه العروي هو صناعة من بين الصنائع لا تتأتى إلا بالمحاكاة، بممارسة صارمة لقواعد النقد/ الجرح والتعديل عند جمهور الحديث، الإمكان والاستحالة بعبارة صاحب المقدمة، كل في مدار يسوق نحو بناء تصور متكامل للتاريخ كصناعة وكتخصص.
الوعي بإشكالية المنهج تظل عند العروي أس غياب الصناعة التاريخية، إذ المنهج المتبع لدى الباحثين محدد بالزمان والمكان، مطوق بسلسلة من الإشكالات، مناقض ومتناقض مع منهج آخر، سابق أو لاحق، فتستتبعه بالضرورة محدودية الاستنتاجات. تصبح العملية التاريخية برمتها عملية تبريرية، لا تستقرئ المنهج في ظل التغيرات التاريخية، والحالة هذه يتحول التاريخ شيئا فشيئا إلى محاكمة وتشهير، يختفي المؤرخ المحترف، ليفسح للناقد الاجتماعي للظهور أمام الناس.
بين قول المؤرخ البريطاني روبين كولينجوود «لا تاريخ بدون مؤرخ»، وقول المؤرخ الفرنسي شارل سينوبوس «لا تاريخ بدون وثيقة»، يستوطن جدل المعرفيات/ الابستمولوجيا التاريخية عند العروي، فما يسمى وضعانية في فرنسا ، يعتبر بالتعريف تاريخانية في ألمانيا، الأمر يحيل على قضية الترجمة والتأليف الأجنبي، بما هي فعل خيانة وفعل محايثة وتناقض. من دون نقد، من دون موقعة الترجمة ضمن سياق المعرفيات المعاصرة، تكون الترجمة فاقدة للفائدة، منفلتة من تناصها التاريخي.
الحديث عن التاريخ كمنحى بين مناحي الفكر، كمسلك بين مسالك المعرفة، يعني عند العروي شأنا آخر، غير ما نعنيه نحن به كتخصص وكممارسة، أي تلك البلازما التي تسبح في كل الفعاليات البشرية، وهذا هو الفرق عند العروي بين مفهومي بين التاريخانية والأرخانية.
الصناعة التاريخية التي يدافع عنها العروي تنبني على معادلة النقد والتمحيص، من دون ذلك يتحول التاريخ إلى رواية بلا دراية، مجتمع بلا تاريخ، التاريخ النقدي هو الذي يُغير عبارة اعلم أن بعبارة كيف أن، المؤرخ يجب أن يقدم الوفاء لما يجرب لا لما يرث، يستند العروي هنا على تجربة المدرسة النقدية الألمانية التي حطمت الروايات التاريخية التي كانت تبدو غاية في القوة والمتانة بخصوص السياسة والدين.
يضع العروي ابن خلدون في مجهر التاريخ، يبدو ابن خلدون من جهة راويا مثل غيره من الرواة عندما يتكلم عن أصول العرب والبربر والترك، مُشاهدا بل صحفيا عندما يتكلم عن نفسه وعلى سلاطين بني مرين، مؤرخا يزاحم في الإتقان والنباهة والاطلاع المسعودي أو البيروني، مُنظرا لقواعد الكتابة التاريخية، مُبدعا لعلم العمران في مستوى فلاسفة عهد التنوير، كاشفا عن الحقيقة التاريخية كميزة بشرية، لربما مقدمة ابن خلدون لا تنفع المؤرخ المحترف، قرأها ابن حجر العسقلاني فلم يستفد منها وما كان له أن يستفيد. المقدمة لم تُغير وجهة نظر المؤرخين، بله أن تغير الذهنية العمومية، وعند التدقيق ما كان يمكن أن تؤثر المقدمة في مجتمع متفكك، آخذ نحو الأفول. حيث الوعي بالتاريخ لا يتم إلا في عهد التقدم والازدهار.
شرعية التساؤل حول مفهوم التاريخ ستظل جوهرية ومتجاوزة في آن، جوهرية لأنها مرتبطة بحركية الفكر، ومتجاوزة لأن منفعة التاريخ لا تتحقق بوضوح لدى الأفراد والجماعات، داخل مجتمع يعبد التاريخ وينفيه كوعي.

2- التاريخانية كاختيار:

يبدأ القسم السادس من الكتاب بتحديدات توضيحية تستأنف الاختيارات المنهجية التي أسس عليها العروي كتابته لمفهوم التاريخ. يعمد في مفتتح هذا القسم إلى فك الالتباس بين مفهومي التاريخ والحقيقة، هذه العلاقة التي ستظل حاضرة كلما فكر المؤرخ في التاريخ كعلم أو صناعة، حيث السؤال المهم هو ليس العلاقة بين التاريخ والحقيقة، لأن هذه الصيغة حسب العروي لا تفيد شيئا ولا تنتج سوى البديهيات، بقدر ما هو سؤال موجه إما للتاريخاني أو الوضعاني. يرمي المؤرخ إلى نقد رواية موروثة، إلى القيام بعملية الهدم التاريخي، عبر النقد والتفكيك، من أجل توليد رواية جديدة، حتى وهو لم يفصح عنها، إنه هنا أي المؤرخ لا يصير مؤرخا إلا وقد وعى خصوصية منحاه.
يعمد عبد الله العروي في الفصل السادس من كتاب «مفهوم التاريخ» إلى القيام بعملية تصنيف للموقف التاريخاني في مختلف صوره وعبر سائر مراحله، متوقفا على مدلول مفهوم التاريخانية، والنقد الذي رافقها من طرف الفلاسفة وأنصار الكلاميات أو المناطقة، في ارتباطها مع مفهوم الوضعانية، مختتما هذا الفصل بتحديد موقفه من تأرخة عملية المؤرخ نفسه، من أجل عدم انغماس المؤرخ في تاريخ وهمي وتذويب التاريخ- الوقائع في ذهنيات المؤرخ.
كلمة التاريخانية/ هيسطوريسموس من صناعة كارل فرنر سنة 1879، في سياق تعريفه لسياسة فيكو. كارل فرنر يؤكد على أن العقل البشري لا يدرك إلا ما يصنع، أي الشعور بأن الحوادث البشرية فريدة ومتطورة في نفس الوقت بعبارة منكه في كتابه أصول التاريخانية. هكذا يبدو إذن أن فكرة التاريخانية قلبت مجرى التاريخ، ثارت ضد المطلق والفكر التقليدي، ضد التقليد البشري الذي يتحكم في العقل والشعور، التقليد سرمدي لا زماني بالتعريف.
يجب أن نفصل حسب العروي بين التاريخية/ الهيسطوريسم والتاريخانية الهيسطوريسيسم، الأولى منهج وطريقة للبحث، والثانية فلسفة كل مؤرخ يعتقد أن التاريخ هو العامل المؤثر في أحوال البشر، بمعنى أنه سبب وغاية ، كيف يمكن للمؤرخ أن يكون مؤرخا دون أن يكون تاريخي النزعة؟ هل يمكن أن نعرف التاريخانية دون أن نستحضر تاريخها؟
مفهوم التاريخ في سبيل إقرار شرعيته خاض عدة معارك إبستمولوجية طاحنة، ظل دوما في قلب التحولات الكبرى لحفريات المعرفة الإنسانية، فيكو هردر رانكه، هيغل، ماركس، فروود وكروتشه وغرامشي أقطاب التاريخانية ما فتئوا يُلحون على ضرورة العودة إلى ظروف النشأة/ أسباب النزول في المصطلح الإسلامي، حينما نهم بتأصل التاريخانية كفلسفة للتاريخ، يستوقفنا تضارب بين الفلاسفة، فريق أول يعتبرها ثورة ضد ثورة، رفض الثورة الفرنسية، وفريق ثان يعود بها إلى حدث القطيعة الذي حدث في القرن الثامن عشر، حينما تم الارتداد على الفكر الكلاسيكي من طرف نقاد الأدب وفناني المدرسة الرومانسية، وفريق ثالث يعود بها إلى حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، حينما استعر النقد صوب الكنيسة الكاثوليكية.

مراجع

1- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب/ المفاهيم والأصول، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 2005، ص 28.
2- عبد الله العروي، الديموقراطية والتحديث، حوار مجلة افاق، ص 151.
3- عبد الله العروي، عن التقليد والتخلف التاريخي، حوار بين عبد الله العروي وعبد العزيز بلال ومحمد جسوس، أجرته مجلة لاماليف، في شهر يوليوز من سنة 1974، العدد 64، ونقله إلى العربية محمد بولعيش ومصطفى المسناوي في بيت الحكمة، العدد الأول، السنة الأولى، أبريل 1986، الطبعة الثانية، ص 167.
4- نفسه، ص 163.
5- عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، الطبعة الأولى، 1996، ص 11.
6- عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، الطبعة الأولى، 1996، ص 14.
7- Abdellah Laroui, Islam et Modernité, Collection Armillaire, Edition la Découverte, 1987, p94.
8- محمد الشيخ، المغاربة والحداثة، قراءة في ستة مشاريع فكرية مغربية، سلسلة المعرفة للجميع، العدد 34، مارس 2007، ص 33.
9- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، م س، ص 25.
10 نفسه، ص 19.
11- التاريخانية في معناها الضيق هي الرؤية التي تعتبر التغيير الاجتماعي أو التطور التاريخي يخضع لقوانين التعاقب غير المشروطة التاي تعطي التاريخ وجهة او اتجاها، والأرخانية هي رؤية الانسان ككائن.
12 – عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، مرجع سابق، ص 29.
13- نفسه، ص 343.
14- نفسه، ص 346.
15- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ص349.
*جامعة القاضي عياض، مراكش

(يتبع)

 


الكاتب : ذ: عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 30/09/2022