يمكن القول إن نقد عبد الله العروي مُوَجَّهٌ ـ بالأساس ـ إلى النخبة المثقفة بعد أن كان موجها، في مفصل منه، إلى النخبة السياسية التي لم تذهب بعيدا في رهانها على إصلاح حال البلاد والعباد في العقد الستيني من القرن العشرين، أي غداة الاستقلال.
شكل فكر عبد لله العروي التاريخي والتاريخاني، والفلسفي، والإيديولوجي والسياسي، والإبداعي، لحظة فارقة منمازة عما سبق في المشهد الثقافي الخاص والعام، أي محليا ومغاربيا وعربيا. فارقة بما اجترحته، وما تأتى لها من قطع وقطيعة مع التصورات الفكرية والسياسية التقليدية والمعاصرة أيضا، التي وصمها بالسلفية، والانتقائية في كتابه العميق والرائد: ( العرب والفكر التاريخي)، الذي حل بعد كتابه التأسيسي: ( الإيديولوجية العربية المعاصرة). حيث انكب دارسا ومفككا، ومستقرئا لأصول وجذور الاختلالات والإخفاقات، والمراوحة والتأخر التاريخي الذي عرفه العرب المسلمون، ولا زالوا يعرفونه من دون أن يتمكنوا من تخطيه، والشروع في استيعاب المنجز الحداثي في مختلف تجلياته ومشخصاته ليس بالتسطيح والضحالة والاستهلاك الأبله الذي نلمس، بل بالاستبطان والانخراط، والشروع في تبيئة مفاهيم ومصطلحات ومنجزات الغرب الفكرية والعلمية والتكنولوجية، والفلسفية، والفنية بما يحقق التثاقفَ الإيجابي، والتلاقحَ المثمرَ، والتخاصب الوَلاّدَ، والتواصل الخلاّقَ، والترابطَ الفاعل لا المنفعل بذاك الفكر.
ولقد كرس عبد الله العروي عمره ـ أمد الله له فيه ـ لوضع برامج وخطط فكرية ليبيرالية تنويرية بغاية زعزعة « ثلج اليقينيات «، وتبصير العرب بالمضيق الحضاري الذي هم فيه، والتأخر التاريخي الذي، إن طال، سيضعهم خارج الميزان، والاعتبار، والتاريخ. وما سلسلة « المفاهيم « التي أعقبت كتبه الفكرية والتاريخية المؤسِّسة: ( الإيديولوجية العربية المعاصرة، والعرب والفكر التاريخي، وأزمة المثقفين العرب، وثقافتنا في ضوء التاريخ )، وهي: مفهوم الإيديولوجيا ـ مفهوم الحرية ـ مفهوم الدولة ـ مفهوم التاريخ ـ ثم مفهوم العقل، إلا ترجمة ثمينة لما رامَه العروي عبر مشروعه المستنير، الممتد، والمتماسك، من عقد حبل السرة بواقع الحداثة والتحديث الذي تعيشه أوروبا وأمريكا، وبعض دول آسيا. وهي ما نرى ونلمس ونعاين. فسعيه الحثيث إلى « تنبيه الغافلين «، وإيقاظ الهمم، هِمَمِ ذوي الحل والعقد السياسي والسلطوي، وزمرة المثقفين بالدرجة الأولى لجهة التحديث وإحداث قطيعة منهجية مع التراث، هو ما حدا به إلى كتابة سلسلة المفاهيم المذكورة والتي لا مناص من معرفتها، واستيعابها، والعمل بها للخروج مما نحن فيه مغربيا وعربيا.
إن ذلك لا يعني بحال، ردم وطمس التراث العربي الإسلامي الذي وصلنا، والإقامة الإبدالية في تراث الأمم الصناعية والتكنولوجية المتحضرة، كاستعادة أرسطو، وكانط، وماكيافلي، وروسو، ومونتيسكيو، وهيجل.. الخ. فعودة العروي إلى ابن رشد أحيانا، وغيره، وإلى ابن خلدون بشكل رئيس، يدل دلالة قاطعة على استلهامه وترَسُّمِه العقلانيين في تاريخ الأمم السابقة، أو الأمم المعاصرة. إذ وجد في فكر هؤلاء، التربوي، والسياسي، والتنويري، والأخلاقي، والمادي العمراني، جذوةً روحية وعقلية مشتعلة ما قاده إلى استقدامهم، وقياس فكرهم وثقافتهم، وفلسفتهم بعمق التحولات التي عرفها تاريخ الأمم والشعوب، وإبعاد ـ في الوقت ذاته ـ التراثيين الرِّثاث الذين جعلوا من الدين مطية خادعة مخادعة لتحقيق مآرب سياسية، وغنائم وقتية، ومنافع برغماتية لم تفد في شيء تاريخ الفكر العربي، ولم تعمل على تطوير المجتمعات العربية الإسلامية بما هي حاضن وحاوٍ لذلك النوع من المثقفين السلفيين التقليديين.
فدعوة العروي ـ في هذا الباب ـ تفسر بكونها تدعونا إلى الدخول في الحداثة بعد أن ننفصل ، مرحليا، عن التراث بكل معانيه وبنياته، وتمظهراته. ثم العودة إلى التراث بعد استيعاب أبجديات الحداثة أولا، والانخراط فيها بعقل نقدي خلاق ووثَّاب ثانيا. ولم يفته أن يشير إلى أن النهضة الليبيرالية العربية التي قادها لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، وآخرين، في العقود الأولى من القرن العشرين، كانت ستعطي ثمارها في مصر وتونس، لو لم يفاجئها الاستعمار والاحتلال الأجنبي. فما حدث في اليابان ـ مثلا ـ من نهضة أفضت إلى ما أفضت إليه في زماننا الراهن، إنما حدث بعد أفول الاستعمار وخروجه مدحورا. وهو ما جعل اليابان تشرع وتستمر في بناء هويتها وتاريخها وحضارتها، في صلة وثقى، وارتباط عضوي مع رياح التغيير القادمة من أوروبا. فكأن منطق التاريخ قلب ظهر المجن للعرب، بينما استكان للأسيويين حتى يتحصلوا على ما تحصلوا عليه من رقي ورفاه، وعلم وتكنولوجيا باندغام مدهش مع مفردات وتاريخية تراثهم العظيم.
وبالإمكان القول إن نقد عبد الله العروي مُوَجَّهٌ ـ بالأساس ـ إلى النخبة المثقفة بعد أن كان موجها، في مفصل منه، إلى النخبة السياسية التي لم تذهب بعيدا في رهانها على إصلاح حال البلاد والعباد في العقد الستيني من القرن العشرين أي غداة الاستقلال. والفكرة هنا تحيل على الزعيم علال الفاسي من خلال كتابه: ( النقد الذاتي )، والقائد الشهيد المهدي بن بركة من خلال كتابه: ( الاختيار الثوري )، والقائدان الفذان: مولاي عبد لله إبراهيم، ومحمد بن الحسن الوزاني. فهؤلاء السياسيون المثقفون كانوا ضوءا، في لحظة تاريخية، بَرَقَ ولَمَعَ، وطفق يبدد الظلمات من حواليه، قبل أن يخبوَ وينطفئَ وهو في عز إنارته واشتعاله.
هو نقد موجه بشكل مزدوج ـ كما أسلفنا ـ إلى النخبة السياسية والمثقفة بما هما، أحيانا، كيانان سياميان، إذ يطرحان ما هو ثقافي فكري إيديولوجي وسياسي، وما هو لحظي، واقعي، يومي يخص العيش الكريم، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والحرية، والديموقراطية.
وغني عن البيان، أن ما يحدد مفهوم الفكر التاريخي الذي سلخ العروي زمنا معتبرا من أجل طرحه وتحليله وتوسيعه في كتبه المؤسسة الريادية الأولى، ينحصر ضمن أربع مقومات، تُخْتَزَلُ كالتالي:
ـ صيرورة الحقيقة ـ إيجابية الحدث التاريخي ـ تسلسل الأحداث ـ مسؤولية الأفراد: ( ما يعني أن الإنسان هو صانع التاريخ ).
ويحدد بأربعة أخرى، في إطار من نسق فكري متماسك، ونظيمة معرفية راهنة ومستشرفة، تسمى بالتاريخانية، هي:
ثبوت قوانين التطور التاريخي: ( الحتمية ) ـ وحدة الاتجاه: ( الماضي المستقبل ). ـ إمكانية اقتباس الثقافة: ( وحدة الجنس ) ـ إيجابية دور المثقف والسياسي: ( الطفرة واقتصاد الزمان ).
وغير خافٍ أن عبد الله العروي، في كل دروسه وحواراته، ومحاضراته، يأتي بالجديد المحمول على لولب الأسئلة الشائكة المستفزة والحارقة. ويطرح الإشكالية تلو الإشكالية، ويذكرنا بما نسيناه، أو نتناساه بخصوص أسباب تأخرنا التاريخي، وأعطابنا الأنطولوجية، وإخفاقاتنا، وعوائق نهضتنا التي تقيدنا، وتكبح انطلاقنا نحو الانخراط في سؤال ومعمعان العصر، ومجتمع المعرفة. فبعضٌ من هذا، ساقه في محاضرته / درسه بمناسبة تكريمه، وإحداث كرسي يحمل بجدارة اسمه الكبير. ولم يكن من غير دلالة ولا بُعِد، ولا نظر ثاقب، اقتراحه بتسمية كرسيه: كرسي الترجمة والتأويل. ذلك أن ما قام به منذ عقود في محراب الفكر والثقافة، لم ينقطع، لحظة، عن الترجمة والتأويل اللذين دعا إليهما في أفق استدراج الفكر والفلسفة والعلم الغربي والأمريكي، والأسيوي، إلى حاضنة اللغة العربية بما هي وعاء للثقافة والتاريخ والفكر، وذريعة للمثاقفة والانصهار، وتحديث المصطلح والمفهوم، وتليين مفاصل اللغة نحوا وصرفا وتركيبا وبلاغة لتساير السرعة الحضارية التي ما انفكت تبتعد بمسافات وأزمان.
فلماذا الترجمة؟، والتأويل بأي معنى؟.
هما ملتصقان مترابطان. فلا ترجمة من دون تأويل، ولا تأويل من دون ترجمة. فالخوض في معنى الترجمة، يجعلنا نقف على معنى الوضوح والنقل والأمانة والفهم والتفسير، وهي المعاني ذاتها التي يقتضيها التأويل كما قَعَّدَه الفيلسوف اللاهوتي الألماني شْلاَيرْماخَرْ، ومن بعده الفلاسفة: دلتايْ، وهيدجر، وغادامرْ، وبولْريكور. وعلى اختلاف مقاربتهم لمعنى التأويل على أساس من طبيعته النظرية والإجرائية، واقترانه بالمجال والحقل الذي يتأوله، فهم لا يخرجون، في العمق، على أنه فهم للنص، وتفسير له، وترجمة لمقتضياته ومحتوياته، ودلالاته، ولغته، وأبعاده التاريخية والثقافية والمعرفية. ومن ثَمَّ، فالترجمة ليست، في واقع الأمر، إلا مسعى تأويليا.
إن المقام ليضيق عن بسط معنى الترجمة والتأويل بسطا وافيا محيطا وواسعا.
وإذاً، فلْنَكْتفِ بالقول إن دعوة العروي، في صميمها وبعدها، هي دعوة حضارية عميقة ومفكر فيها، لأنها تتيح إيلاء الترجمة والتأويل ما يستحقانه من علمية ورصانة وأكاديمية، وعملية مُمَأْسَسَة تعتمد على مؤسسة جامعية محترمة ولها اعتبارها، بل جامعات في المغرب جميعه، تقوم بها، وتصاحبها، وترعاها، وفقا لبرنامج محدد في الزمان والمكان، وتبعا لاستراتيجية واضحة، واختيار مدروس ومفكر فيه، يستقطب أقلاما ذات ثقافة وخبرة في الترجمة والتأويل، « تقتنص» عناوين كبريات المؤلفات والمصنفات العلمية والأدبية والفنية من شتى الأصقاع واللغات. لكن، حبذا، لو تتخطى ـ في هذا المضمار ـ طابو الدين والسياسة، لأن الترجمة الحق التي تتغَيّا رفع الوعي بما يراه ويكتبه مفكرو وعلماء وفلاسفة العصر، لا تُقْصي الكتب الموسومة « ظلما « بالعداء للدين والإسلام. أو تك التي يتوسم فيها الدعوة المفتوحة إلى الحريات، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية، والإبداع الخلاق، والتربية « العلمانية».
فلِمَ نخاف مقارعة الفكر بالفكر، واللغة باللغة، والثقافة بالثقافة، والحضور في العصر بالغياب عنه؟.