تربض كتلة ثقيلة و عميقة من الحزن على صدر أضمومة الأستاذ المبدع عبد النبي دشين القصصية الأخيرة ، تلك الموسومة ﺑ» لا أحد ينتظرني « ( دار الثقافة للنشر والتوزيع ، 2025). وهي الثانية له بعد مجموعة « رائحة الوَرْس « ، الصادرة منذ ثلاثة عقود خلت، تحديدا العام 1994 .
حُزْنٌ أو ربما حَزَنٌ غير عرضي ولا عابر، محُوك داخل نسيج شفاف، رقت خيوطه الناظمة، حتى ظهر ما وراءه، و تشعبت مادته ، و تكاثفت مشتقاته . وها هي ذي ألياف النسيجة ، تنبسط على سطوح القصص تفاصيل و دقائق، ترشح مسامها – حد امتلاء وعاء النفس – بالوحدة ، و الفراغ ، و الصمت، و الذكرى،و الفقد ، و الأصداء ، و الرحيل، والغياب، و الخيبة، و الانتظار ، و الانكسار .
فيجد القارئ اللبيب نفسه أمام كتابة سردية نازفة من دون شكوى ، كأنها جرح داخلي لامرئيّ و غير قابل للبُرء ، و قدام عوالم حكائية داكنة ، شيمتها المناطق الظليلة للروح المنكوبة . القارئ عينه، الذي يلفي ذاته كذلك في مواجهة الذائقة الجمالية الخاصة لقاص حذق الأسلوب، ماهر الصياغة، قدير الصنعة، يُقَدِّمُ نفسه، على امتداد كافة هاته الصروف والمحن، بوصفه الحارس الأمين لمستودع الذكريات القديمة على أطراف بحيرة الوجع. كما يُقَدِّمُ بطاقة هويته الأسلوبية، باعتباره مبدعا لطراز خاص من القصص، يمكن نعته ﺑ» قصة الوسادة الهوائية الممتصة للصدمات» .
دعوني أقول – على سبيل الترجيح ، الذي يرتق الفَتق الواسع بين السابق و اللاحق – بأن فداحة الألم الراديكالي ، الذي طال سيرة الكائن الواقعي عبد النبي دشين، و حياته المثخنة بالابتلاءات، على الأغلب هو السبب الجوهري من وراء احجامه عن النشر لمدة طويلة، ثمّ تحوّله، على مدار سنوات كثيرة ، إلى قاص قانط جدا ، محتجب نوعا ما عن أضواء الحياة الأدبية ، و لا عمومي السمت و المذهب ، مثلما يجدر بكل المبدعين المتميزين المصابين بمتلازمة السندباد البحري ، أي من صنف الكتاب المتوحدين ، أولئك الذين اصطفوا العيش منزوين على جزيرة عائمة متحركة في اتجاه المحيط اللانهائي للعدم .
سأفترض جدلا بأنَّ هذا السندباد المغربي الأصيل، المعتكف داخل صدفة نأيه الاختياري ، سيبارح ، بين الفَينة و الأخرى، يابسته الوهمية المحاطة من جميع الجهات بالمياه و الأشجان ، كي يقود المتلقي، عبر هاته الأضمومة القصصية الحديثة و المهمة، إلى أصقاع رحلاته السبع و أسرارها التنضيدية المكنونة :
1. تخييل ذاتي مرآوي :
ولتكن الرحلة الأولى، على متن القصص الخمس الأولى ( لا أحد ينتظرني ، انتظار ، العودة الأخيرة، رصيف الانتظار ، و الكرسي )، صوب جغرافيا التخييل القصصي الذاتي المرآوي، تدقيقا بالمعنى الذي أعطاه له سيرج دوبروفسكي، حيث يشتبك الذاتي المروي بضمير الغائب مع التخييلي المعدّل وراثيا ، حتى وإن كان متجمدا في حالة ترقب ضاغطة ومتصاعدة، تعتصر البدن و الروح ، كي تصل ذروتها العبثية ، فيما يماثل الكريشيندو الحكائي ، على ظهر كرسي عتيق ، أضحى مدمنا على مشاطرة الوحدة و متعة قراءة روايات ألبير كامي و ايزابيل ألليندي و أغوتا كريستوف مع شخصية «عبد الصبور»، الطاعنة في شرودها الوجودي اللاذع، إما صراحة أو إيماء أو إلماحا أو مخايلة.
2. أنوماليا القصة :
أما الرحلة الثانية، فتمثلها قصة « أنيماليا القصة «، وإن كنت أفضل أن أقرأها «أنوماليا « ، بمعنى النشوز الولادي و العيب الخلقي في جينيالوجيا الفن القصصي عموما . فهذا النص – في تصوري الشخصي – هو بمثابة نقد لاسع و مبطن للخلفيات و الدوافع والقناعات، التي تقف من وراء كتابة قصة بالنسبة للمؤلف عبد النبي دشين . فهو يرمي، من خلال لاوعي المسرود ، إلى اختلاق قصة من دون أوهام التداول الواسع أو الزائف، قصة بلا وعود أو حدوس أو افتعالات أو استعراضات، قصة تغرز أوتادها في المساحات الخافتة و المناطق غفيرة الظل كثيفة الحقائق. أليست جثة شخصية «موحا» المسجاة كناية مضمرة عن جثة الكتابة القصصية الآن ؟ و قصة عدد الجريدة التي غطت وجهه الدامي ، أليست استعارة غير مباشرة يشيع بها المؤلف جِنَازَةِ الفن القصصي الراهن إِلى مَأْوَاهَا الأَخِير؟.إنّ الضوء الساطع بالنسبة لعبد النبي دشين غريم مناوئ للكتابة الحقة، والقصة في عرفه الذاتي هي فن الظلال الهامسة بامتياز.
3. بكرة و خطاف و طعم :
في حين تمثلت رحلة السندباد المغربي الثالثة في ثلاث قصص ذات بنية ثلاثية مكعبة، هي على التوالي : (ثلاثية، ضياع، و ظل الظل). نهضت جميعها على أساس التشذير المتوائم ، و التقطيع السردي، و العنونة المتصادية، سواء على صعيد الخبر أو الزمن أو الترميز . فجاءت قصصا مفتوحة من الناحية التأويلية، و تمظهرت تقنيا « سرود توصيلات»، مثلما يسميها إنريكي أندرسون إمبرت في كتابه المعروف « القصة القصيرة : النظرية والتقنية «، شبيهة « بتركيب القطع المختلفة لصنارة صيد ، فيضمُّ الجزء و يُركَّب إلى الآخر ، وهكذا دواليك «. وعلى ذات المنوال المدبّر بإحكام، يشتغل السارد المبدع عبد النبي دشين بحرفية عالية . يحرك القطعة الأولى ك(البكرة) ، و يلقي (الخطاف) في القطعة الثانية ، ثم يقع المتلقي في شرك (الطعم) في القطعة الثالثة. وبالتقاطع مع هذا السياق التقني الصرف، أحب أن أشير إلى أن «الفن» يحدث في القصص التي يكتبها عبد النبي دشين دائما في مناطق ما وراء الحكاية المعيارية. وهي قصص تمضي بطريقة عمودية لا على نحو أفقي مثلما في الرواية أو على شاكلة دائرية كما هو الشأن في الشعر. كما لاحظت أن مقاطعها ومحكياتها الصغرى تصاغ بتقنية آلة «سورجي» في الخياطة، حيث يحرص عبد النبي دشين على أن تكون غرز التصييغ على شكل حلقات صغرى مزدوِجة و مترابطة (عين في قلب أختها كما يقال بالعامية). ولا بِدْع بعد هذا ، أن النتيجة في خاتمة المطاف جلية مُتَلأْلِئة، إذ كما يقول المثل الشائع «أجرة الخياط تحت يديه «.
4. لغة ميزان الماء :
مضت رحلة السندباد الرابعة ناحية أرخبيلات اللغة، تلك التي رصَّف بها المبدع عبد النبي دشين جل قصص أضمومته . إذ قد تتوقع ، بالتساوق مع موضوعاتها الجوانية، ومناخاتها السوداوية، و تشريحها للكآبة النفسية، أن تكون لغة الحكي مصابة بالتناذر . لغة « مفورسة « أو هذيانية أو مهلوسَة ، لغة ذات تكاثر مدمر، غفير و عنيف ، لغة في شكل جنون عكسي نحو الداخل، أو على هيئة جرح ملتهم كأسماك» البيرانيا «، مادام هذا النمط من السرود يقتضي ذلك، ويستتبع الأعراض الأولى من أورام اللغة، تلك التي يخفيها المؤلّفون عادة تحت مسمّى النسيان أو ثقوب الذاكرة، بيد أن الاختيار اللغوي لهذه الأضمومة كان على النقيض من هذا التخريج تماما . فكتب القاص نصوصه بلغة برقية خاطفة مقتصدة، موفورة الصحة، و نضرة الوجنتين، و ذات ذاكرة استحضارية ناصعة كحافظة «فونس قوي الذاكرة « لبورخيس . لغة ميزان الماء إذا صح التوصيف،أي بأبجدية المِسْوَاة القصصية، تلك التي يستخدمها عبد النبي دشين بتضلع و تفوق عارف نحرير، كي يعرفَ إذا ما كانت أسطح القصة أفقية أو رأسية أو مائلة.
5 .فوتوغرافيا لتبصير السرد:
يصل السندباد إلى رحلته الخامسة في قصة «سيلفي»، المشكلة معماريا من ( غرفة مضيئة بارثية، و ضوء، و زابينغ، و ظل، ونيجاتيف ). فالمبدع عبد النبي دشين لا يوظف في هذا النص صورا من أجل تحقيق جماليات محايثة للسرد، وإنما يستخدم مفاهيم الفوتوغرافيا لسرد قصة، مدارها محاولات إحدى الشخصيات التقاط صورة ذاتية بجودة عالية، توثق للحظة زمنية معينة و تخلدها، سوى أنها تخفق في ذلك . يبدو لي أن الكاتب في هذه القصة يتبنى رأي سوزان سونتاج التي ترى بأن التصوير الفوتوغرافي يعطي استيعابا سطحيا للواقع، صنو الظلال في كهف أفلاطون، خالقا شعورا مزيفا بالحقيقة من خلال الصور . وبسبب غياب موضوعية هذا التصوير الفوتوغرافي، وعدم حجية طبيعته الذاتية ، نرى كي عَمَدَ القاص إلى تقديم رؤية ووجهة نظر جديدة، من خلال جعل المصطلح الفوتوغرافي مكونا هيكليا في معمار البناء و تبصير السرد .
6. سردية المضاعف المقنّعة:
عماد سادس رحلات السندباد المغربي كان هو مفهوم «المضاعف» ، المشفوع بكل من سمات العجائبي، و الغرابة المقلقة، و التلاعب بالزمن التناظري، و ذلك من خلال قصتين بديعتين هتشكوكيتين ، أعدهما – في تقديري الخاص – أجمل نصوص هاته الأضمومة على الإطلاق: أولاهما قصة « حارس الظلال « عن حارس مستودع قديم يكتشف بابا، و قبوا ، ثم مرآة. ومن قلب المرآة تمسك – فجأة- بكتفه قبضة الحارس العجوز السابق للمستودع ، و يخاطبه صوته : « كان عليك البقاء في غرفة الحراسة . لقد أيقظتهم» . أما ثانيهما فقصة «شارع «، عن رجلين متشابهين يسيران في شارعين متقابلين، غير أنهما يتقاطعان عند أحد ممرات الراجلين ، فحدقا عندئذ إلى بعضهما، كما لو أن كل واحد منهما يشاهد الآخر في مرآة تعكس وجهه في زمن مختلف . القصتان نموذجان رفيعان، لما يسميه المحلّل النفسيّ النمساويّ أوتو رانك ﺑ « الدوبلغنجر»، أي (الشبيه المندسّ تحت الروح ) أو ( المزدوج النديد ) أو ( القرين الداخليّ ) أو( الآخر الذي يرفض الاختفاء من الذات ) أو (الأنا التعويضيّة) أو (هذا الذي يشبهك كما لو أنكَ تُبصره) . ومن خلفيّة هذه المرجعيّة ، يُقدَّمُ لنا كل من القاص وقصته بوصفهما «شيزوفرينيّان «، ومنقسمان بلا جدال . يتكاثر القاص ويتضاعفُ عبر قصصه المكتنفة بسردية مقنَّعة،و كلما حدث له هذا، أضحى بمنأى عن نفسه الأمارة بالتثبيط و اليأس، ونجا من لعنة ذاته الملتهمة لذاتها إلى حين .
7. محارة الأغاني القادمة :
رحلة السندباد المغربي الأخيرة، كانت بالمصادفة البحتة من خارج أضمومة « لا أحد ينتظرني»، إذ قرأتُ للأستاذ المبدع عبد النبي دشين قصة جديدة ، تحت عنوان : «المرأة التي تنتظر القطار الأخير» . وها أنذا- كرّة ثانية – أمام انتظار آخر ، انتظار سائل، يأبى أن يترك وجه القاص، ليغادر مخفورا بالسواد والظلال داخل لوحة ظهر غلاف أضمومته. نص بنفس تشيخوفي و شاعري أخاذ، و تكنيك فني رفيع للتوازي و التوليف و التأثير، الذي يمكن أن يحدث في الواقع بفعل أثر الخيال، أو بالأحرى بفعل تجاور الوقائع في واقع واحد . فحكاية الشاب الذي يهوى تدوين القصص الغريبة، كان لها الفضل في تغيير مصير سيدة المظلة المنتظرة طوال الوقت لشيء لا تعرف كنهه. أترك لكم متعة اكتشاف خاتمة هاته القصة البديعة، التي لا أرى أَي تَجَاوُز للحَدِّ فِي الكلام، إن قلت إنها تضاهي القصص الكونية المكتوبة من قبل كبار المعلمين الروحيين لهذا الفن الصعب، الذي يعادل المزايا الاستشفائيّة لشجرة الدَّردَار ، تلك التي يُسمّى ورقها عند أهل المغرب بلسانِ الطَير. اللّحاءُ رطبٌ، و اللّبُ نارٌ، والطعمُ خلٌّ، والظلُّ جمٌّ، و العراجينُ رونق، إذا ما لُفّت على موضع الجرح أو الكسر أمكن أن تُدمله.. إنّ كتابة القصة، بالنسبة لكاتب فذ من قيمة الأستاذ عبد النبي دشين، هي بمثابة لسان عصفور الأدب، و هي قادرة على إبراء روحه من كُلومها الوجوديّة ..لذلك لن ننتظر طويلا ، حتى نرى أعمالا قصصية أخرى جليلة له، تخرج تباعا من بين ثنايا طواياه، مثلما تخرج الأغاني من أقدم آلة موسيقية هوائية في التاريخ : المحارة .
(*) ألقيت هذه الشهادة بمناسبة اللقاء الاحتفالي بتجربة القاص عبد النبي دشين ، الذي نظمه بيت الشعر في المغرب ، بتعاون مع مسرح محمد الخامس، وذلك يوم الأربعاء 21 ماي 2025 ، بمشاركة الشاعر حسن نجمي، الناقد محمد معتصم، القاص أنيس الرافعي، و القاص سعيد منتسب، فيما قام بإدارة الأمسية الروائي أحمد لكبيري.