عبقرية جان جينيه

 

سأنطلق من سؤال بسيط يخص هذا الأديب لأقدر أهميته وعبقريته.السؤال هو :» كيف أمكن لهذا الشخص الذي كانت كل ملابسات حياته وظروفه ترشحه ليصير لصا مجرما مهمّشا أن يتحول إلى قديس مثقف ملتزم عبقري ؟
يمكن،ربما، العثور على عناصر الجواب لهذا السؤال في الكتب المعروفة المؤلفة حوله، أذكر منها :
ـ «القديس جان جينيه ، الممثل الشهيد» لجان بول سارتر(1952)
ـ «جان جينيه في طنجة» لمحمد شكري ( 2006)
ـ «الأسير العاشق الولهان» لإدمون عمران المالح (1986 )
ـ «الكذاب العظيم» للطاهر بنجلون (2010)

***
ولد جان جيني سنة 1910 ـ و توفي سنة 1986 .اسمه من والده هو فردريك بلان . لم يعرفه طيلة حياته.في سبعة أشهر بعد ولادته تخلّت عنه أمه التي كانت ترزح تحت ضغط الشغل خادمة لدى الآخرين. منها ورث اسمه العائلي جيني. تبنته عائلة رينيي بكفافها وعفافها وتكفلت بتربيته الأولية إلى أن استقبله الشارع فغاص في لججه.

***
كتب عنه جان بول سارتر قائلا :» في كتابه «مذكرات اللص» يحكي جان جيني حياته وبؤسه ونجاحه وحبه.إنه يؤرخ لأفكاره ، فهو مثل مونتاني يملك مشروع الإنسان الخيّر الذي يرسم ذاته.إلا أن جيني ليس بالشخص الأليف الرقيق حتى مع نفسه . طبعا فهو يقول كل شيء كل الحقيقة و لاشيء سوى الحقيقة.إنها حقيقة مقدسة .كتابه هذا عبارة عن كوصموغونيا (حكي أسطوري عن نشأة العالم) مقدسة . العبقرية في هذه الحالة ليست وحيا ولا هبة، إنما هي المخرج والمآل الذي افترعه الكاتب جان جيني في حالات اليأس والقنوط للعثور على الاختيار الذي اختاره لنفسه وحياته ومعنى العالم في نظره.

***
كان محمد شكري يرى نفسه في جان جيني. كان يرى بؤسه ومصيره ومآله فيه، فقد تماهى وتصادى معه. يحكي الطاهر بن جلون عن علاقته بهما معا في باريس وفي طنجة . ثم يميل إلى وصف قصة صداقتهما قائلا:»إن صداقة شكري بجيني كانت صعبة للغاية .في بداية الأمر سعى شكري للبحث عن جيني وكان هذا الأخير يتحاشاه متعللا بقوله من يكون هذا الآفاقي المتأبط دوما لرزمة من الكتب معه؟ لكن لمّا دنت صداقتهما، بات شكري يرتاب في هوية جيني معتبرا إيّاه من المخبرين.و لمّا تلاشت الشكوك دارت بينهما نقاشات حول الأدب الفرنسي خاصة ستاندال و ألبير كامو.حرص شكري على تدوينها في ما بعد بما بقي في ذاكرته.هي التدوينات نفسها التي ستشكل مادة كتاب «جان جيني في طنجة» الأمر الذي سيوتّر صداقتهما مرة أخرى في شكل جذب ونبذ حول أحقية نشر ما كان من حوارات غير معدة للنشر وكشف أو انتهاك للحميمية ..
إنها طبيعة الصداقة لمن لا صديق لهم أولئك الذين لا يعيرون أدنى تقدير للصديق «آه يا صديقي ليس هناك من صديق»(كما يقول أرسطو). والسبب في ذلك لديهما هو حدة البؤس الذي عانا منه في صغرهما وطفولتهما، وعدم الثقة بسبب الغدر لخيانة والصعلكة والإهانة التي تعرضا لها…

***
ربما ما يجمع بين عمران المالح وجان جيني هو كلمة «الأخير». كان جيني آخر الصعاليك وآخر اللصوص واستطاع أن يحوّل كل هذه النهايات إلى عبقرية في الكتابة الأدبية والالتزام السياسي. كذلك كان عمران المالح آخر اليهود المغاربة مثله مثل آخر يهودي زيلاشي توفي بأصيلة يدعى ماحون وهو توفي بالرباط وواراه الورى في الصويرة موغادور أكاد أقول مون أمور.
يجمعهما أيضا الالتزام السياسي. كان عمران المالح شيوعيا من طراز لينين وماو تسي تونغ أفنى نصف عمره في النضال السياسي المغربي والنصف الأخير في رسم معالم مجرى أدبي يبدو أنه لا يتحرك إلا في الحكي.وكان جيني مناصرا للقضية الفلسطينية وقضية الفهود السوداء وزينكالورين اليابانية. يصف لنا أجواء مخيم صبرا وشتيلا.»أربع ساعات في شتيلا»(1982) أو «العدو المصرّح به» لا هو شهادة ولا هو تحقيق إنما هو تكريم أدبي للفدائيين الفلسطينيين . برفقة ليلى شهيد استطاع بلوغ المخيم ليلا ووصف الهول الذي رأى…….

***
العبقرية في هذه الحالة هي الانتقال من أسفل سافلين إلى أعلى علّليين . يفسر لنا ذلك فرويد بمصطلح الإعلاء أو التصعيد أو التعظيم، وهي تلك المقدرة على جعل الدوافع الغريزية تعلى وتصعد إلى إنتاجات فكرية أدبية أو جمالية. إنها إرادة القوة لمّا تتحول من الطبيعة إلى الثقافة. التعظيم لدى فرويد سيرورة معقدة يتم فيها تحوير الدوافع الجنسية إلى فعالية ثقافية .كتعظيم ليوناردو دافنشي لحبه للطيور في تصوير العديد من الآلات الطائرة أو رسمه للجوكاندة بابتسامتها الدالة على الحب و الخوف في آن واحد تعظيما لحبه وخوفه من أمه…
لم يعل جيني كل دوافعه الجنسية بل حوّرها من الاختلاف الجنسي إلى المثلية و حافظ على هذا الاختلاف بله الانحراف طيلة حياته.لكنه كان اختلافا مثمرا أدبيا و شعريا. لقد ربطته علاقة حميمية بالراقص على الحبل المدعو عبد الله بن تركة (من أصل جزائري)و كتب عنه رسالة حب شعرية بعد انتحاره تحت عنوان «لو فينومبيل» الراقص على الحبل(1957).و كان مخلصا في مماته لرفيقه بالعرائش محمد القطراني هو الذي لم يعرف الإخلاص طريقه حتى إلى ذاته. و لا حديث يدور حول هذا الرفيق إلا لماما و همسا و لا نعرف عنه شيئا تقريبا، لكننا نعرف الآن لماذا أوصى بدفنه بالعرائش.إنه الإخلاص في الحب.
إلا أن التعظيم لا ينحصر في السيرورة النفسية الليبيدية بل يتعداها إلى محاولة بلوغ العظيم (سيبليم)و هذا الأخير يصفه كانط بالعمل الأكبر و يحدده كما يلي :»العظيم يتجلى في أن كل ما نقارنه به يبقى صغيرا» و يضيف «وهو حين نفكر فيه يبدي قوة للعقل تتجاوز كل قياس للحواس بما فيها الخيال»…..

***
لو نقلت ذات الإشكالية من مجال الأدب (المسرح ، الشعر ،السيرة الذاتية..) إلى الجماليات و التشكيل بالذات ، متأملا البورتريهات التي رسمها الفنان عبد الله بلعباس لجان جيني بالمناسبة لتساءلت : « لماذا عدم إتمام هذه البورتريهات و تركها ناقصة ؟ لم يبقيها دون اكتمالها و انتهائها ؟ إن اختيار وضع هذه البورتريهات في وضعية ناقصة غير تامة ليس اختيارا تقنيا فقط أي لا يتعلق الأمر بلمسة فنية تترك جانبا دون انجازه و تفتح به المجال أمام المشاهد ليتمم هو بدوره ما تبقى ، و لا هو تكسير جدار وهمي ينفذ منه ذلك المشاهد ليكمل الصورة و يشارك في تأثيثها.يبدو أن الأمر يتجاوز هذا التدخل أو هذا الإشراك لنلف أنفسنا أمام فجوة يطلّ منها البياض تعبيرا عمّا لا يمكن التعبير عنه إلا مجازا أو نسيانا أو إمحاء .و وصفا لما لا يمكن أن يوصف.إنه وضع اللانهائي في النهائي أو استخلاصه منه.هذه الاستحالة الممكنة هي العبقرية كما جسّدها جان جيني و صنوه محمد شكري و بينهما هونري ميلر و كما نفذ إليها الفنان عبد الله بلعباس…

ألقيت هذه الكلمة في اليوم الاحتفالي الذي نظمته كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالجديدة مع شركائها تحت عنوان الفن و الأدب: جان جيني في كلمات وصور، مشفوعا بمعرض بورتريهات لجان جيني من توقيع الفنان عبد لله بلعباس.


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 02/12/2022