عتبات الاغتراب في ديوان «أنا أو لا أحد» للشاعر محمد العياشي

أولا: عتبة العنوان

– (أنا لا أحد): عنوان ماكر يستضمر الكوجيطو الديكارتي (أنا موجود) بالسلب، وبصيغة مختلفة، يقول درويش:» في البيت أجلس/ لا حزينا لا سعيدا/ لا أنا، أو لا أحد»، وفي نفس المقام الإشكالي، نستحضر السؤال الشكسبيري على لسان هاملت (أكون أو لا أكون تلك هي المسالة).
وقد يكون كناية عن: (أنا ومن بعدي الطوفان).
هو عنوان خادع، لأن فيه تأكيدا على وجود الأنا، وفيه أيضا سلب للأنا (لا أحد). فكيف نؤول الأنا في سياق النصوص ومقاماتها؟ هل هي أنا الجسد أم الكينونة أم الأنا الشعرية أم أنا فرويدية؟ وهل لا أحد يتضمن نفيا للأنا فعلا أم هي أنا بلا حدود مطلقة غير مجسدة في أحد؟
يتأكد اللاأحد في قوله: «تجردت مني وانطلقت بلا جسم»/ ثم يستدرك «إني مزدحم بي» ثم يحل بالآخر « أنا سواي» كما لو أنه يضمن شعره قول المتنبي
أُفَرِّقُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرَةٍ) ثم ينتهي شاعرنا إلى السديم…
هي تساؤلات تفضي إلى أن ذات الشاعر تقف في البرزخ الفاصل الواصل بين الطرفين: أنا ولا أحد، مترددا بين الهوية الفردية والجماعية أو بين الهوية المجسدة في الكائن المادي واللامادي، فالتردد بين الهويتين يدل على توتر دلالي بين الحياة والموت، وهذا ال بين-بين هو ما يمكن اعتباره «عتبة» تؤشر على تيمة الاغتراب يقول العياشي: (إني سواي وشخصي الحق مغترب) .

ثانيا: عتبات الاغتراب

الاغتراب المعجمي والدلالي

يتردد الشاعر بين المعجم الشعري التراثي الأصيل (مدلهم –الوغى-طرس-ضليل-افراس-اليم-دهر-السرى-خيمة-دياجي-منخرم-سنابك يميس-نائبات-) وبين المعجم الرومانسي حيث تحضر قيم مهيمنة عبر دوال الطبيعة والذاتية والتشاؤم.
التوتر حاصل المستوى الدلالي والموضوعاتي بين دلالات تراث الشعر العمودي والاتجاه الرومانسي:
من جهة، تتناص النصوص مع أشعار الجاهليين الصعاليك والمعري والمتنبي وأبي تمام وأبي نواس وأبي العتاهية وابن الفارض وغزل المجنون وجميل بثنية من خلال أغراض متعددة وموضوعات قيمية منها:
– العفة والصبر والاستسلام للموت: يختار الشاعر مسلكا في الحياة، متشبعا بسكينة الزهاد كأبي العتاهية القائل:
(فاقنع بعيشك يا فتى ** واملك هواك وأنت حر)
ثم يتفاعل مع قيم الشعراء الصعاليك في الكد والسعي الحثيث:
(ليس لي شيء قط إلا أنني رجل
أسعى حثيثا على قسري بإجبار…)
غير بعيد عن رؤية الشنفرى للوجود في لامية العرب:
(وفي الأرض مَنْأيً للكريم عن الأذى
وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ)
ينتهي السعي الى كثيب الموت:
(وإذا النهاية أحدقت بك، فاصطبر واخضع فما لك من يديها مهرب)
مجاريا من استسلموا لحقيقة الموت، حتى المتنبي المكابر:
(وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع)
بل لعل الموت هو ما يجعل الشاعر يسعى الى الخمرة:
(خليلي عبا واسقياني مدامة)
مجالسا بذلك عبد الله بن المعتز الذي يقول:
(يا خَلِيلَيَّ اسْقِياني … قَهْوَةً ذاتَ حُمَيَّا)
يردف شاعرنا:
(يا صاحبي اسقياه من كؤوسكما
هذا المسا جرعا اخرى على جرع
كذا هو الدهر لا منجاة من يده
فاشرب من الكاس شربا عير منقطع)
كما لو كان نديما مضارعا لأبي نواس:
(فما العيْشُ إلاّ سكرَة ٌ بعد سكرة،
فإن طال هذا عندَهُ قَـصُــرَ الـدهــرُ)
هي إذن خمرة حسية لا تشبه خمرة عمرو بن كلثوم الفخرية التحميسية، نعتبرها موضوعا فنيا من إكراهات النوع الأدبي وغرض الخمريات: هي خمرة شعرية ومعادل موضوعي لمقاومة عبث الأقدار وحتمية الموت، هذا الإحساس باللاجدوى من الحياة يبلغ مداه:
(مثلان: هاوي السير أو من يقعد)
بالتناص مع شعر المعري:
(غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا تبرم شادي)
ولئن كان المعري يتبرم من نفسه:
(هذا جناه أبي علي) فإن شاعرنا يحوم حول دلالاته بقوله:
(إنى أبغض نفسي).
ولعل المشترك بين الشاعرين ليس رغبة في الموت أو تحقيرا للذات كالحطيئة، بل هو صوت احتجاج على ما آل إليه وضع الشعر والمثقف في زمن السياسة الانتهازية والتدين الشعبي ونفاق الخلان وغدر الزمان.
مقابل هذه الهوية الدلالية التراثية، نجد الديوان يجنح نحو الهوية الدلالية الرومانسية بتجاوز غرضي (المدح والهجاء) مع هيمنة النزعة الوجودية التشاؤمية:
(إنني اللاأحد الماضي إلى
حيث لا أدرى على أفراس وهمي)
شعور بالوحدة تتقاطع فيه أصوات عزلة جبران وبكائية خليل مطران
(أثوي إلى خلوتي وحدي لأوغل بي
أو بالسديم ولا حد لأسفاري)
وكذا التناص مع طلاسم إيليا أبي ماضي ولا أدريته
(جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت.)
نستنتج، إذن، أن الجسم يعيق الروح في انطلاقها نجو اللامكان واللامادة ورغبتها في معانقة المطلق…وأن لا سبيل الى السعادة إلا بامتطاء أفراس الصبا والوهم والخيال.

الاغتراب الموضوعي

باستجلاء سلسلة دوال متشاكلة، ندرك حجم التوتر الذي يسكن لغة الشاعر، فموضوعة (الجبر) تستدعي في الديوان دوال: الدهر والليل والثبات والجبل والقدر والعماء والضلال والسديم.
في مقابل تيمة (الحبر) التي تسيل عبر دوال: الشعر والماء والخمرة والدمع والموج والماء والحلم والوهم،
تقابل التيمتين يجعلنا نستنتج أن الدهر نسق قيمي رمزي يدل على الواقع الكائن من حيث هو ترميز لسلطة الزمن السياسي القاهر والمدينة الفوضوية الخانقة والجبر الديني في مقابل واقع ممكن يتمحور حول تيمة الماء المقترنة بالرغبة في التحرر والصيرورة والسيلان الخصيب بالشعر نابعا من فيض اللاشعور وأحلام اليقظة كما أشار باشلار. وهذا يفضي بنا الى استخلاص عمق أثر الاغتراب .

الاغتراب الإيقاعي:

(لا أحد) نسيج إيقاعي عروضي على بحور الشعر العربي بقوافيه الطيعة، خاصة الطويل والمديد والبسيط بتفعيلات سائدة «فعولن ومفاعيلن وفاعلاتن ومستفعلن» تحقق غنائية تجعل النصوص تستهدف الإلقاء والإنشاد، لكن توزيع النصوص على الصفحة يوهم كما لو أن النصوص من الشعر المنثور، وهذا التوتر حاضر من خلال التباين بين المدرك المسموع النغمي والمكتوب المرئي ويشير الى اغتراب الشاعر بين ايقاعات الماضي وتشكيلات الحاضر.

ثالثا: خلاصات

هذه الوحدات المعجمية التيماتية والتصويرية والإيقاعية تبرز أنواعا من التوترات أوجزها في تيمة الاغتراب:
اغتراب معجمي ودلالي يبرز انشطار الذات بين هويتين شعريتين (الشجر الجاهلي والعباسي) في مقابل الشعر الرومانسي وفي الآن نفسه تشكيك في جماليات شعر النثر و لاجدوى الهايكو .
اغتراب وجودي في الزمان والمكان لأن التشبث بالمرجع التراثي هو تشبث بالهوية البدوية الرعوية والصفاء القبلي الطفولي «الأطلسي» ضد المدينة الفوضوية، وهو تعبير عن اغتراب عقدي لأن الشاعر ضد الجبر الديني وإكراه الدولة ومؤسساتها التي تقصي حرية الاختيار الفردي وتدمر شعوره بالانسجام الذاتي.
ورقة نقدية قدمت في إطار ندوة احتفاء بالشاعر محمد العياشي وشعره، نظمتها الجمعية المغربية لتربية الشبيبة AMEJ / فرع سيدي معروف بالدار البيضاء، يوم 8ابريل2023


الكاتب : جمال عبد الناصر الفزازي

  

بتاريخ : 10/05/2023