عرس عنصري

كانت الشمس قد انسلخت عن وهاد المدينة الصغيرة بادن بادن، متقهقرة في احتشام لم يتبق منها غير خيوط رفيعة تطل من قمم جبال على مدينة الحامات الساخنة الملتحفة في هدأتها. ونحن الآخرون كنا قد انفقنا آخر جملة للمشهد الأخير من «الحدائق السرية»، تمثيلية أنتجتها الإذاعة الجنوبية لمنطقة بادن بادن الألمانية الجنوبية تحت إشراف الدكتورة كترين روبل. بث إذاعي يحمل رسائل عشق إلى مدينة فاس، إلى حدائق مدينتها المتاهة. رسائل سائحة ألمانية أضاعت طريقها بين الفتنة والحلم الأندلسي الباذخ، فهامت تتبع ثنايا دروب وأزقة دائمة التوالد والتفرع المغري بلذة الإيغال في الضياع. لكن لهذا الضياع الحالم سر ينطوي على مصادفة لقاء المرشد السياحي حسن، الذي كان يتتبع الظل بخطى طفولية في طريق عودته إلى بيته. يلتقي الاثنان ويفتح حسن لهذه الغريبة كوة تطل عبرها على عالم طيات خفي ويخرجها من تيهها المخبول إلى سياحة متأنية في ثنايا دروب ملتوية ملثمة بالغموض، تكشف فيها عالم أسطورة باذخ، يتوى عن الأعين الفضولية الغازية خلف الأسوار السميكة والأبواب الموصدة العتيقة، كأنه عالم طالع من بين طيات كتاب ألف ليلة وليلة. كان دوري في هذا الإنتاج الإعلامي هو المرشد السياحي حسن . انتهينا ولم ينته لقاؤنا وأتبعه مخرج العمل هاينرش والمشرفة على الإنتاج بأن أضمرا لي مفاجأة في هذه العشية البهيجة، غير أنهما لم يفشيا لي عن كنه هذه المفاجأة. غادرت بناية الإذاعة في معية السيدة روبل، مخلفين وراءنا المخرج مع تقنية العمل في الاستوديو، يتباحثان المخطط التقني للعمل، الذي سيذاع في الأسبوع القادم في المحطة الجنوبية الغربية. وتوجهنا على متن سيارتها من نوع أوبل منحدرين من الربوة، التي تجثم فوقها بناية الإعلام إلى السفح حيث ترقد المدينة الصغيرة متوشحة في سكونها المسائي، تهيئ ساكنتها لاستقبال الليل البهيم وولوج مئاويهم الدافئة.
انطلقنا إلى ملهى ليلي يتمركز داخل المدينة. لم يمض وقت طويل على مقامنا في الملهى، حتى أقبل المخرج والتقنية في سرية كأنهما حاكا مصيدة للفرجة المترقبة. كان الملهى الباذخ تؤثث منظره فتيات أوروبيات شرقيات. نحيفات القوام، مصففات المظهر، بسحنات جبسية وقامات متشابهة كأنهن دميات لفظتهن آلة إنتاج فورية. ما أن اكتملت حلقة جلستنا حول الطاولة الواطية، حتى قدمت لنا كؤوس من عصير البرتقال، مشهد كان يبدو أنه رتب باتقان بين الفتيات وطاقم العمل الإذاعي حتى يبدو في كل تفاصيله عفويا. سألت المشرفة السيدة روبل إحدى الفتيات عن اسم لم أتبينه جليا، لأن صوتها كان أقرب إلى الهمس منه إلى الإفصاح ، فأجابت الفتاة الأوروبية الشرقية، أنه قادم. لم أعر سؤالها ولا جواب الفتاة أهمية وغرقت في جلسة الحديث الرباعية عن العمل وعن مقترحات الموسيقى التصويرية وغيرها مما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحدائقنا السرية. كان الملهى فارغا من الزبائن إلا منا نحن الأربعة والفتيات الأوروبيات الشرقيات، لأن وقت حلولنا به لم يكن وقت فتح بابه لاستقبال الزبائن الفارين إليه من وحدة المساء وعزلة الأيام أو الفراغ بعد العمل أو النسيان أو يأتون ولهم فيه مئارب أخرى. لم نصل إلى إفراغ نصف كؤوسنا ونحن نتبادل تلك الأحاديث، التي انزلقت بانسيابية من حديث العمل إلى أحاديث لها نكهة الخوض في هموم هذا العالم .فجأة قال لي المخرج هاينرش وبدون مقدمات وبالصرامة والجدية، التي لا أعرفه إلا بها : „إنه قادم ويحمل دائما مسدسا في جيبه.» لم أفهم إلى ما كان يرمي إليه هاينرش بالمسدس، كما أنني لم استوعب لماذا وجه كلامه إلي وما علاقتي أنا بهذا الذي يحمل دائما مسدسا في جيبه.
كنت أجلس وظهرى إلى مدخل الملهى، حين سمعت خطوات جادة تقترب منا وبسرعة، كأنها على موعد تجتهد حتى لا تصله متأخرة. لاحظت وجوه الجالسين من حولي وهي تتطلع إلى القادم وقد علتها ابتسامة خفيفة خاصة على وجه السيدة روبل . توقفت الخطوات خلف ظهري، ومن غير تحية أو سابق انذار، سأل الوافد الجديد، الواقف خلفي، والذي لم أر وجهه لحد الآن، موجها كلامه إلى هانريش: «أهذا هو؟»، «نعم» أجابه المخرج، شعرت بذراعين طويلتين تمتدان من حولي، فاستدرت بنصفي الأعلى إلى الخلف، فرأيت رجلا في الأربعينات من العمر قوي البنية، ذا شعر كث غير مصفف، في معطف بني غامق وخاتم ذهب سميك في خنصره الأيسر وفي معصمه ساعة يد من نوع رفيع. كان يبدو لي جسده من الأسفل، أنا القاعد فوق الكرسي الواطئ، كأنه عملاق يقف فوق رأسي، شدني إليه ضمني أو بالأحرى اعتصرني دون أي كلمة إلا من رنة بحة صوت لم أتبين همساته .استدرت بكل جسمي نحوه حتى أتبين من القادم، فرفعني إلى صدره من غير جهد ولا عناء، وأنا النحيف، الضئيل مقارنة بجسده الأوديسي، إلى درجة لم تعد معها رجلاي تلمسان الأرض. انقطعت أنفاسي وأحسست بقبلاته على خدي حارة لزجة تبخ فوق جلدي كرذاذ هائج وأنفاسه الطالعة النازلة بإيقاع سريع. كان بين القبلة والأخرى يردد بالألمانية «ابن بلدي» وأخرى بالعربية «ولد بلادي» وبصوت مرتفع، والصوت المرتفع هي طريقة حديثه العادية، التي سأخبرها لاحقا. كررها عدة مرات ثم وضعني فوق الكرسي الواطئ كحزمة مرسلة على عجل. حياه الباقون وقال له هاينرش: «أهلا ابراهام «. بعد تحية الجميع وأنا أكثرهم حرارة، التفت ابراهام إلى البنات الأوروبيات الشرقيات وكال لهن سبا ولعنا، كيف يقدمن لنا عصير البرتقال: «احضرن لهم زجاجة ويسكي وزجاجة…» وقبل أن يتم سبابه الممزوج بأوامر في لغة خليط من الألمانية والعربية، قاطعته السيدة روبل: «نحن من طلب عصير البرتقال ولا نريد أن نذهب إلى العشاء ونحن ثملين.» كان وجه ابراهام متلألئا، تعلوه مسحة فرح كأنه مؤجل لزيارتنا. جلس إلينا ولم يشرب شيئا وقد تحول كلامه معي بالعربية ومع الآخرين بمزيجه اللغوي. قدمه لي هاينرش بقوله: هذه مفاجأتنا: «إنه ابراهام مغربي وحين سمع أن مغربيا يعمل معنا في هذه التمثيلية أصرعلى أن يراه.»دارالحديث بيني وبين ابراهام ،عن الوطن والمهجر،عن مدينة مسقط رأسي، وعن مدينة الصويرة، عن مدينة إقامتي في ألمانيا وعن آخر زيارتي للمغرب وكان يطلب من الكل و يعيد من جديد:
«أرجوكم اشربوا شيئا، أو ابقوا هنا نتعشى معا.»، فتجيبه الدكتورة السيدة روبل:» لا يمكن، فقد حجزنا العشاء في مطعم كستيل.“ فيجيب هو „ أي طعام عند كستيل أفضل من الذي سأقدمه لكم.“ امتد الطلب منه وتمادى الرفض منها.لا أدري كيف سحبنا بنا الحديث من العشاء في مطعم كاستل إلى الحديث عن أسرته في إسرائيل، فقذفته السيدة روبل بسؤال لم تعرف أنها تستفزه من خلاله: «ابراهام، متى كانت آخر زيارتك لإسرائيل؟»، استشاط ابراهام بحدة صوته المرتفع غضبا وكأن سؤالها هذا أيقظ في نفسه مواجع مرارة دفينة أو إهانة يضمرها استفسارها هذا: «أنا أزور إسرائيل، أنا أزور اسرائيل؟ أبدا. آخر زيارة لي كانت منذ عشرين سنة». فردت السيدة روبل «لماذا، أليس لك أهل هناك؟“ نظر إليها بنوع من الاستغراب وقال: «نعم، لكن إن رادوا أن يبقوا في ذلك البلد الموقوت فليبقوا، أما أنا فلن أزور اسرائيل ابدا. إنهم أكبرعنصريين عرفتهم في حياتي. تصوري، عندي أخت تعيش هناك، وكأن الرجال انتهوا من العالم، فلم تجد البليدة إلا بولونيا لتعشقه. وحين عزمت وإياه على اقامة عرس زواج، اعترضت اسرته بشدة.» لماذا؟ «سألت هذه المرة التقنية كابي. «لماذا، لأن أسرته بررت رفض الزواج، بأنهم عانوا تحت الحكم النازي في بولونيا ونحن اليهود المغاربة لم نعاني ما عانوه. هل هو ذنبنا، أننا عشنا تحت حكم الملك محمد الخامس، الذي دافع عنا بحياته وقال لممثلي أذيال النازية حكومة فيشي، «عليكم ان تأخذوني وعائلتي أولا قبل أن تأخذوا رعاياي اليهود.» ثم زادت حماسة ابراهام واستطرد قائلا: «أنا ولدت في مدينة الصويرة، وكنا لا نعرف فرقا بين المسلم واليهودي، نسكن في نفس الدار وندخل نفس المدرسة، نحتفل بكل الأعياد معا. أنا تعلمت في الكُتاب القرآن.“ ثم بدأ يقرأ فاتحة القرآن، وبعدها قرأ سورة الإخلاص وقال للحاضرين، «اسألوا ادريس إن كنت أكذب. أما هناك في اسرائيل، فقد رأيت شتاتا وليس شعبا، الروسيون وحدهم، البولونيون وحدهم، الفلاشا وحدهم والمغاربة وحدهم إلخ، جماعات، جماعات لا تجمعهم إلا دولة مبنية على العنصرية. لا، لن أسافر إلى هناك مرة أخرى . كلما هزني الحنين إلى الأهل والأحباب، أسافر إلى المغرب على الأقل ثلاثة مرات في السنة، حيث يستقبلني أصدقائي وأحبابي الحقيقيين في الصويرة وفي كل المغرب.» طال حديثنا عن المغرب وعن مدينة الصويرة الشاطئية وذكرني شخص ابراهام بشخصية عبد الرحمان برشيد، المغربي ، الذي كانت له هو الآخر حانة في مدينة هانوفرشمال ألمانيا، إنهما يتشابهان في القامة ولغتهما الالمانية ليس فيها مرفوع ولا منصوب وكلها مجرورة، تتخللها كلمات عربية، بحيث أن زبائن عبد الرحمان من كثرة ما سمعوا الكلمات العربية، أصبحوا يفهمون ما يقول، ولا شك أن الأمر لا يختلف عند زبائن ابرهام. بعد 11سبتمر 2001 حين لزم أكثر المهاجرين الصمت، خوفا من الاتهام بالإرهاب، كان عبد الرحمان يصدح بصوته المرتفع مثل صوت ابراهام من خلف مصطبة حانته وأمام زبنائه قائلا: «إنكم المسؤولون عن ما وقع، فما دمتم تدفعون الضرائب والضرائب تدفع لإسرائيل وإسرائيل تنتفخ بتلك الأموال وتقتل بها الفلسطينيين، فلن يكون هناك سلام ولا حياة استقرار.“ حين أردنا مغادرة الملهى الليلي، أمسكني ابرهام على انفراد وقال لي:
«لن أسامحك أبدا، إن جئت مرة أخرى إلى بادن بادن ولم تزرني . حتى وإن لم أكن في المحل فسينادون علي وآتيك حالا.إنني حين ضممتك شممت فيك رائحة الوطن».
في مكالمة مع السيدة روبل قالت لي: «أتذكر ابراهام؟» قلت لها نعم، قالت: «زرته مرة في في مكان عمله، فوجدته قد سجل حلقات التمثيلية كلها ويسمعها زبائنه كل ليلة وقال لي: «كلما سمعتها إلا وأحسست بنفسي أتجول في الحدائق السرية».

 


الكاتب : إدريس الجاي

  

بتاريخ : 12/02/2021

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *