عزيزي «حْمَد» المُذهِلُ

ولدتُ في حي « حومة السوق»، وهو الاسم الذي يعني هذه الجهة من غربي المدينة، حيثُ كنا نقيم في فجر الاستقلال، وأذكر أن والدي كان يمنعني من أن أتسلل تحت ناظريه لعبور بوابة الحي، ربما لارتباط خارجها في نفسه بالذهاب إلى ما فوق حومة السوق، حيث دفنا بعض فلذات كبده، هو الذي لم يكن يمنعني من أن أتحرك كيف أشاء وأن أجوس خلال الديار داخل الأسوار، كل ساعات النهار، لكن ما إن تقدمتُ في الطفولة قليلًا ، حتى قادني بنفسه، ساحبًا إياي من إحدى يديّ بوضعها في كفه التي لم تكن قوية قاسية، مثل أكف الآباء الآخرين، إلى كتَّاب أمام مصلى العيدين القديمة ، الذي تحيط به المقابر، قديمها وجديدها من كل صوب، هي قبور ما فوق السوق حيث كان الناس يوارون موتاهم بين الحين والآخر، قبل أن تضيق جنبات هذه العقبة الكأداء التي كان أكثر مساحتها صخور وضخمة وأحجار، وهكذا اتسع العالم أمام قدميّ الصغيرتين، وإن لم تنفتح الآفاق إلا بقدر .اتساع رؤياي على دور غرب المدينة التي آوتنا زمن طفولتي، أو على مداخل نحو سماء الله : فإما إلى جنة وحسن مآب، أو إلى جهنم الحمراء التي لا تتوقف عن قولها: هل من مزيد، والعياذ بالله.
وفي الساحة التي تلي البوابة اكتشفت أول خروجي إليها، دورا كان قد بنيت ليقيم بها بعض قدماء المحاربين، الذين استغنت عنهم القوى التي كانت قد استخدمتهم لفيفا أجنبيا للقتال في حرب أهلية كانت قد اندلعت على أرض الجارة الشمالية، وأفراد من عائلات جالية المحتل. وبسكوت تلك الحرب حملت سيارات عسكرية من بقي صالحا من أعضاء ناجين كان قد ألقيَ بهم قسرا أو خديعة في أتون اقتتال لمناصرة الحاج فرانكو الذي أشاعت أجهزة دعايته أنه أنما يحارب أحد أحزاب الكفار، إذ لم يكن معارضو الجنرال الإسباني يعرفون شعبيا بغير وصف الحُمر.
وفي طفولتي لم يكن مضى زمن طويل على نهاية تلك الحرب، لكنني لا أتذكر بالتفصيل كيف تدفقت أعداد من الناجين من دوامتها التي طحنت الكثيرين ممن لم يسمع أهاليهم عنهم شيئًا، فكل ما انتهى إلى ذهني الصغير ما انتهى من أخبار تلك الحرب بلغني من خلال محكيات اطفال كانوا أبناء محاربين عرفوا في حينا بالأرقام التي كانت لهم في الصفوف التي حاربوا فيها، بعض أولئك كان متجهم الوجه دائما مثل 11 رقم الذي كنت أولي هاربًا كلما سمعت باقترابه، ولا يزال باب داره وقد ارتسم مغلقا لم أره مفتوحًا مرة، بل كان من أولئك المحاربين من سمعت عنه دون أن أراه، رغم أنه كان أبًا لطفل كان من أصدقائي مثل 45 الذي كانت تجمعه علاقة عائلية مع جدتي لأمي، وكان من بين قدماء المحاربين من كنت أعرف أسماءهم أو ألقابهم دون أرقامهم التي لم يكن يناديهم بها غير رفقائهم مثل « ايمّا ظَهْري» الذي كانت الحرب قد أطفأت إحدى عينيه، أو «عزيزي» أحمد «أحّاحْ» الذي عاد وقد شلّتْ إحدى ساقيه لكن دون أن تقطع ، كما قطعت ساق «عزيزي» الحسين « الكوخو» الذي انتهى تاجرا بدكان ملاصق لبيتنا. لكن لينتقل إلى دكان آخر قريبا من بوابة السوق.
ومن بين هؤلاء جميعًا كان «عزيزي» أحمد «المذهل» الذي عاد من الحرب وقد حرمته من يديه كلتيهما، كأن جلادًا ممن نرى في بلاد الشرق قطعهما، بمثل ما تقطع يد السارق، وقد كنت ألِفْتُ رؤية «المذهل «في عاهته وأنا أتأمله وهو يستقي الماء باستعمال سطل يرفعها بوضعها على إحدى ذراعيه، لكن كيف وقف ذهني الطفل عن أن يذهب إلى أن أتصور أي عمل كانت تقوم به يدا عمي أحمد « المذهل» ، وهل كان عازف عودٍ، أم نافخ مزمار يفتن السامعين فيجتمعون حوله من كل الجهات، ، ليساق إلى الحرب بخدعة، وليقوده حظه التعس إلى أن يكون بين الحضور ذات مرة في بار صادف أن تعرض على حين غرة لقنبلة وقعت أمام «المذهل « دون أن تنفجر بقليل، مما سمح له بالإسراع إليها لإبعادها عن أن تنفجر داخل الحان، فما كاد يلقي بها إلى الخارج حتى كانت قد ذهبت بكفيه كلتاهما في آن، لكن ما ـبعد هذه الصورة الجميلة عن خيال الطفل الذي كنته، وأنا أرى من كان قد أذهل كل من استمع إليه وهو يعزف بيديه كلتيهما، وهو يرفل اليوم في كهولة فقيرة، ويقيم في منزل، هو أشبه بالكوخ من أن يكون بيتًا، لولا أنه شيد من جدران وغطي سقفه بقرميد جميل.
وقد وقفت منبهرا أمام صورة هذا الجندي الذي سيق كارها إلى الحرب ، ليراه رَاوٍ فنان وقد انتهت به تنقلاته محاربا، قريبا من عاصمة جيراننا المقتتلين في ما بينهم، وقدْ وقَفَ إلى كونتوار في حان، في لحظة مشؤومة لينقذ حيوات من كانوا فيها، وليعرِّض رأسماله الفني إلى الدمار: يديه وصفاء ذهنه، حيث فقد مع ذلك كله في ما لاحظت، حتى ذاكرته ، فضاع الرجل الذي لم يعرف بعدها إلا بالرقم الذي كان معلقًا على صدره ، كما تعلق هوية كل الجنود.
كنت أقف وأنا أرَى الرجل يأخذ ما يستطيع استيعابه سطلُه الصغير من ماء هذا الشؤبوب الغزير الذي جعلته مصالح البلدية في متناول الأهالي من سكان هذا الحي الذين كانت دورهم بلا مرافق من أي نوع، يشربون من شؤبوب عام ، ويلجؤون إلى مرحاض الجامع ، أو إلى الخلاء استجابة لنداء الطبيعة.
لكن لماذا كان المحتل يأخذهم إلى الحرب، ألينتقم منهم إذ لم ينس كيف كانت مواجهتهم له في أول لقاء، مقاومة ورفضا لأي احتلال.؟ فهل جاءنا وهو يعرف أن بيننا من سيكونون حطبًا لحروبه الأهلية، رغم أن أهلنا كانوا يعلمون حقا أن الفريقين اللذين اقتتلا خارج حدودنا كلاهما لم يكن على ملتنا ـ بل كان بين فقهاء الناس حتى في ذلك الزمن، من اعتقد بأن الكفر ملة واحدة.
أنا اليوم سألجأ إلى من سينصفني أنا و»عزيزي حْمد» المذهل الذي لا اعلم إن كان لا يزال حيا يرزق، ليصور لي قدرات هذا المحارب رغما عنه، وفي أي فن كان يبرع، قبل أن يفقد على أرض الحرب كل رصيد الفنان العازف ، قبل أن تختطفه شاحنات كانت تأخذ الناس غصبًا ، فإن لم يكونوا وهم في ثياب نومهم، ففي ثياب أعمالهم في حقولهم أو معاملهم اليدوية، إلى حيث زُجَّ بهم في حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، رغم ما قيل لهم تضليلًا من شعارات حاجّ وهمي ، ربما كان هو أول من استلقى على ظهره ضاحكا من سماعها.
ـ « قال لك الحاج فرانكو…قال.:»
ـ « وهل الروخو الأحمر كافر بالله أم نصراني أزرق العينين؟
علا صوت قبل أن يلوذ صاحبه بالفرار وهو يقهقه في مثل قوة هزيم الرعد:
ـ « يا حلوفو يا كرموسو….
بيننا كانت خطوات زين أطفال الحي تصعد في اتجاه ما فوق السوق، بقدمين صغيرتين حافيتين، وهو يمعن هروبا من قضيب حديد عيار 6 للبناء المسلح كانت تلوح به إحدى يدي والده ، وهو يأمره بالعودة إلى الكُتَّاب بينما يؤكد الطفل من وراء دموعه على حقه في الالتحاق بمدرسة كان الأب يرفضها لأنها كانت مدرسة إسبان.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 01/07/2022