«عزيزي».. ظل المقاوم

“عزيزي”… مجرد اسم، نغمة خافتة في معزوفة التاريخ الكبرى، ولكن لمن عرفه، كان هذا الاسم همسة ملحمية تتردد بين القلوب.
جاء “عزيزي” من جنوب المغرب، من أرض الرمل والنخيل، من ظلال تخنقها أنفاس الرياح الصحراوية.
لم يكن ممن تتزين أسماؤهم بالشهادات أو يتحدث الناس عن بطولاتهم في المجالس.
كان رجلاً بسيطًا، عاديًا في الظاهر، ولكن ضحكته، تلك الضحكة الصادقة الخفيفة، كانت تلطف خشونة أيامه.
ورغم قلة موارده، كانت بابه مفتوحة، ويده ممدودة دائمًا، وكأن الكرم ثروة لا تنفد.
كانوا يقولون إن “لعزيزي” عينين لامعتين، وقلبًا نبيلاً، وصمتًا نادرًا. ولكنه كان يحمل أيضًا ظلاً يثقل وجهه بعد صلاة العشاء.
حين يخرج من المسجد، بدلاً من أن يعود مباشرة إلى بيته، كان ينحرف إلى طريق مجهول، ويختفي نصف ساعة أو ساعة.
أين كان يذهب؟
سؤال ظل لغزًا، تهمس به عائلته الكبيرة، دون أن يجرؤ أحد على طرحه علنًا.
كانت تلك حقبة مضطربة، حين كان المغرب يرزح تحت نير الحماية الفرنسية.
كان المستعمر ينشر قواته من الغوميين السنغاليين، قساة القلوب، لقمع أي نزعة تحررية.
ومع ذلك، في بعض الصباحات، مع انبلاج الفجر، كانت ترتجف منظومة المستعمر: يُعثر على جندي فرنسي أو غومي مقتولًا، ضحية يد خفية.
ويهمس الكبار والصغار بأن نظرات “عزيزي” الحارقة عقب صلاة العشاء كانت تتزامن مع هذه الحوادث الليلية.
هل كان هو من يقيم عدلاً صامتًا في الظلام؟
هل كان الظل الذي ينساب بين الأزقة ليؤكد أن وطنه لن ينكسر أبدًا؟
لن نعرف أبدًا.
لم يكن “عزيزي” يتحدث، لكن صمته كان يصرخ بنضال داخلي، بصراع دون سلاح ظاهر، حيث كان كل فعل من أفعاله يحمل عبء وطن جريح وإرادة لا تنحني للنهوض من جديد.
ومع ذلك، فإن التاريخ الكبير، تاريخ الكتب والنصب التذكارية، لم يذكر قط أسماء أمثال “عزيزي”.
أولئك الرجال الخفيون، الذين، بتواضعهم وصمتهم، شكلوا استقلال المغرب.
لكن، ماذا يهم؟ لم يكن لـ”عزيزي” بريق الأبطال الرسميين.
كان شعلة خافتة تتقد في ذاكرة القليلين، نجمة تراقب سماء المغرب بصمت، شاهدة على الكرامة المستعادة.
أبناؤه وبناته وعائلته الكبيرة لن ينسوا ” عزيزي”.


الكاتب : محمد أنور الشرقاوي

  

بتاريخ : 19/12/2024