عز الدين العلام، مترجم بقبّعة باحث رصين

تُلخّص تجربة الأستاذ الصديق عز الدين العلام تجربة جيل بكامله مع لغة أخرى غيرِ اللغة العربية، بالنّظر إلى طبيعة التعليم المُعرَّب الذي تلقّاه، وإلى طبيعة قراءاته. غير أنّ العلّام تمكّن، بتحَدٍّ وإصرارٍ كبيريْن، منْ أنْ يُصبحَ كاتباً بلغتيْن ومُترجِماً لعددٍ من الكتب والدّراسات المرجعيّة والمُفيدة في مجال البحث الاجتماعي والسياسي.
لَمْ يسبق للعلّام أنْ تلقّى دُروساً أو تكويناً نظاميا في مسائل الترجمة وتقنياتها، ولا هو مترجم مهني متخصّص. إن الترجمة بالنسبة إليه تجربة شخصية نشأت وتبلورت وتطوّرتْ بالموازاة مع مساره الجامعي، تكويناً وتدريساً وتأليفا باللغتين. وهو نفسه يَعتبر أنّ علاقتَه باللغة الفرنسية أساساً هي علاقةٌ خارجية. لقد كان تعليمه باللغة العربيّة، والوسَط العائلي الذي كان معرَّباً مائة بالمائة، بحُكم الوالد الذي كان رحمه الله أحَدَ أبْرز الأساتذة الفقهاء، الذين درّسوا بثانوية ابن يوسف بمدينة مراكش (التي كانت معروفة باسْم دار البارود). كلّ هذا لم يقفْ عائقاً أمامَ الطّموح الذي كان يحرّك صديقَنا عز الدين.
وبعصاميّة كبيرة، سينكبّ، وهو في المرحلة الثانوية من تعليمه، على تعلّم اللغة الفرنسية بصفتها رمزاً للحداثة وحاملة للمُستقبل. وعوض قراءةِ الأدبِ المصري (نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وغيْرهم)، كما هو شأن أقرانِهِ، سيشْرع في قراءة روايات ومسرحياتٍ لكلّ من ألبير كامو وجانْ بول سارتر، بمُساعدة قاموس مزدوج اللغة. إن اهتمام عز الدين بالترجمة كانت له آثار إيجابية على مستويات متعددة: لقد فتحتْ عينيْه على عالمٍ وعلى ثقافةٍ مختلفين، وعلى قيمٍ مختلفة عن عالم وثقافة وقِيَمِ جيله. كما حرّرته من أيّ إيديولوجيا أو فكْرٍ دوغمائي، بل إنّها كانتْ أحياناً بمثابة ملجأ بالنسبة إليه يحتمي بها كحاضنةٍ للإجابة عن أسئلة ذاتية وارتيادِ آفاق أخرى في إطار لُعبة البيْن البيْن: بين لغتيْن وثقافتيْن وحضارتيْن.
كما كانت الترجمةُ بالنسبة إليْه وسيلةً لإغْناء دروسه الجامعية، المكتوبة أصلاً باللغة العربية، وتعميق أبحاثه العلمية وإثارة فضول طلبتِهِ. ففي بداية دراسته الجامعية، كان العلّام قد بدأ في ترجمة بعض المقاطع والنصوص من العلوم السياسية لإثراء عروضه، والتي كانت مكتوبة في البداية باللغة العربية.
كانت أوّلَ تجربة ترجميّة لعز الدين العلام في بداية الثمانينيات، وحتى قبل سقوط جدار برلين، حينَ أتيحت له فرصة قراءة كتاب بعنوان «الإيديولوجية الباردة» لكوسْتاسْ بّابّايانو. ما أثاره في هذا الكتاب هي الرُّوح النقدية للمؤلف الذي يشْرَح ببساطة ودقّة كيف تحوّل (بلْ تشوّه) التفكير النقدي لكارل ماركس إلى مجرّد إيديولوجيا، إلى أداة في أيْدي فئة بيروقراطية على رأس الدولة الشمولية. بفضل هذا الكتاب، تمكن من رؤية أنه لا توجد أيّة علاقة بين الرّوح النقدية لكتابات ماركس والرؤية «الانقلابية» التي يتضمّنها كتاب «ما العمل؟ للينين.
في سنة 2000، سيُترجم كتاب مدرسة الحياة: بيان من أجل تربية جديدة للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، الصادر عن منشورات ملتقى الطرق بالدار البيضاء. وهو كتابٌ يتناول فيه مورانْ إصْلاح التعليم، حيث يدعو الفيلسوف الفرنسي إلى إصلاح شامل للتعليم، يتمحور حول مهمته الأساسية كما تصوّرَها جون جاك روسو، والمتمثلة في «التدريس من أجل الحياة». ويتعلق الأمر، حسب ما ورد في غلاف الكتاب، بتمكين كل فرد من تحقيق استقلاليته، وحماية نفسه من الخطأ والوهم، والعمل على فهم الآخر، ومواجهة المجهول، وبإيجاز، إعداده لمواجهة مشاكل الحياة.
كما سيترجم دراسةَ عبد الرحمان رشيق التي تحمل عنوان: المجتمع ضدّ الدولة، الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب، الصادر عن منشورات ملتقى الطرق سنة 2020. وهي دراسة ميدانية موثَّقَة ترْمي إلى تحقيبِ ظاهرة الاحتجاجات في المغرب منذ الاستقلال إلى ما بعد «الربيع العربي»، ويركز على العلاقة الجدلية فيما بين السلطة والاحتجاج ويدرس من خلالها مسار تطور أشكال الاحتجاج من الانتفاضة إلى الاعتصام ثم المظاهرة أخذا بعين الاعتبار النظريات السوسيولوجية التي تفسر الفعل الاحتجاجي.
ترجمته لكتاب عودة إلى زمن والديّ. مقاربة أنثروبولوجية للباحث الأنثروبولوجي حسن رشيق. منشورات جامعة ابن زهر، أكادير، المغرب، 2014. وهو كتابٌ-سيرة ذاتيةٌ يَستحْضِر فيها رشيق الزمَنَ الذي قضاه صُحبة والدِهِ، مُحاوِلاً تأويل عدد من المحطّات فيه، حيث سَعى إلى الأخْذِ في الاعتبار مختلف التغيُّراتِ الثقافية التي عرفها جيلهما خلال القرن الماضي. وانْطلاقاً من الأرشيف العائلي وما جرى بينهما، حاولَ ضبط بعض الآثار الإثنوغرافية لهذه التحوّلات، وكذا ممارسَة نَوْعٍ من الأنثربولوجيا موضوعها أقرب الناس إلى الباحث.
إضافة إلى ترجمته لكتاب مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، مقاولة متعدّدة الأبعاد، لهنري لويس فيدي، منشورات ملتقى الطرق، 2021. وكتاب صراعُ الحضارات أمْ حوارُها-إشكالية البديل؟، عنْ منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، الدار البيضاء، 2012. هذا فضْلاً عن ترجمته للعديدِ من المقالات والدراسات ضمْن مجلّات متخصصة أو بمناسبة ندوات أو على أعْمدة الجرائد.
ما يهمّني في تجربة عز الدين هي الدّروس التي يمكن استخلاصها بعد قراءة ترجماته:
إنّ مَنْ يقوم بالترجمة اليوم حتى في مجال الآداب والعلوم الإنسانية هم أناس لا علاقة لهم بالترجمة كتخصّص، وإنّما هُم هواة يتقنون اللغتين: اللّغة الأمّ، مصدر الترجمة، واللّغة الهدف التي يُترجم إلْها أو العكس.
هي أنّ الترجمة في مجال العلوم الاجتماعية فعْلٌ معرفِيّ، وليست مجرّدَ فعلٍ تواصُليّ. وبالتالي يتعيّن على الترجمة أنْ تُغْنِيَ العَمَلَ الأصلي، وتُوَسِّعَ من مجال تلقّيه. وهي أيْضاً فعلٌ كتابيّ، فعلٌ للكتابة.
إنّ مَعْرِفَة لغة أجنبية شيْءٌ، ومعرفَةَ الكتابة شَيْءٌ آخَر. لا شيء أسْوأ مِنْ مُتَرْجِمٍ غير قادر على الكتابة أو لا يعرف كيف يكتُب: سوف يميل بشكل عام إلى نسْخِ جُمَلِهِ على جُمَلِ النّصّ الأصلي، وإنْتاج نصٍّ غير مفهوم أو غير مقروء. سَتُشَمّ منْ لُغتِهِ رائِحَةُ التّرْجمة.
يجب أن يتوفّر المترجم على حدٍّ أدْنى من المعرفة بالمجال العلمي الذي يترجم منه؛ كحدّ أدنى، لأنه في كثير من الأحيان تتم ترجمة الكتاب بالنظر إلى مُساهمته في فتح آفاق جديدة، وبالتالي فالمترجمُ هو أحد الأوائل الذين يَكتشفون ويقدّمون هذه الأفكار التي تكون غيْرَ مألوفة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بمفرداتٍ ومُصطلحاتٍ جديدة ينْبغي عليه البحث لها عن معادلاتٍ. يجب أن يمْتلك المترجم كذلك ثقافة عامّة واسعة إلى حدّ ما، وإلّا فإنه (لا سيّما في العلوم الاجتماعية والإنسانية على وجه الخصوص)، ستنفلتُ منه العديدُ من التلميحات والإحالات والإشارات والاقتباسات، أيْ كلّ ما يدخل ضمْن «الدرجة الثانية» للنصوص.
في مختلف ترجماته، كان عز الدين العلام يختار ما يُلائم ذوْقَه واختصاصَه واختياراتِه الفكرية وقناعاته. إنّه يصدُقُ عليه قوْل موريس غْرافيي الذي مفاده أنّ «المُتَرْجِم الحقيقيّ ليْسَ هو مَنْ يبْدُو أنّه يتوارى خجلا وراء شخص آخر، بل هو الذي يقدم فكر الآخر وهو يتمثله تماما تلقائيا لحسابه الخاص، كما لو كانَ قد ابتكره».
وهو في كلّ ترْجماتِهِ يَعْرِفُ ما يُترجِم، ويَعرف الطريقة التي يُترجِمُ بها، لكَوْنِهِ يخْتارَ الحديثَ مِنْ داخلِ مَلْعَبِهِ الخاصّ. لذلكَ تؤكّد اللغة التي يُترجِمُ بها أنّ التّحَدّي الرئيسيّ في ترجمة النّصوص هو معرفة كيْفيةِ تدبيرِ مُختلف التّعقيدات والإشْكالات اللغوية والمفهوميّة والرمزية والدلالية التي تجعل النص منتوجاً مركَّباً ومقروءاً بدون تمحّل لغوي. كما أنّ عز الدّين العلام يَعي بأنّ مهمّة المترجِم هي خلق الأثر نفْسه الذي يَرومُ النّصُّ الأصْلي خلقه في ذِهْنِ القارئ، وبالتالي فإنّ العمليّة الترجمية هي، في العُمْق، عملية تتجاوز اللغة لتغدُوَ سيرورة تأويليّة في غاية التعقيد. ليْس ثمّة شكّ في أنّ الترجمة هي شكلٌ مِنْ أشْكالِ التّأويل، غير أنّ الأمْرَ يتعلّق بعملية تأويليّة خاصّة جدّا، لكوْنِها مَحكومَة بمعايير ذات صلة بأخلاقيّاتِ المِهْنَة ومُلزمة باحترام خطابِ المؤلف. ذلك أنّ هناك سيْرورة تأويليّة تسْبق وتدعم دائمًا اختيارات المُترجم، الذي يتعيّن عليْه بالضّرورة القيام باحتمالاتٍ حول «العوالم الممكنة» التي ينْطوي عليْها النّصّ، والمُراهنة بشجاعة على مقْصديّاته.
إنّ عز الدين يؤسّس في العُمْق لِمَا يمكن اعتباره مُمارسَة ترجميّة مقيّدة بمفاهيم التفاوض والانعكاسيّة والسياق والمرجع والثقافة والعوالم المُمكنة وإنْتاج الأثر، الخ، والتي تجْعل الترجمة والتّأويل معاً مسْألةً نسبيّة للغايَةِ. لماذا؟ لأنّه مقتنع بأنّ العمليّة الترجميّة النّاجعة هي التي تقوم على مَبْدأ التّعاوُن والتفاوض والدّفاع عن طبيعة التّكافؤ الدلالي المطلوب، وتجاذُب مفهوم الوفاء للمعنى الأصْلي.
إنّ الترجمة، بالنسبة للأستاذ عز الدين العلام هي عملية ينبغي أنْ تجريَ وفق تأويليّة محكومة بمبدأ التفاوُض. وهو تفاوُض متعدّد الأطراف: مِنْ جهةٍ، النص- المَصْدر وثقافته المرجعية والمؤلّف (حين يكونُ حاضرًا وباحثا صديقا له)؛ وجهةٍ أخرى، النّصّ- الهَدَف ومُتلقوه والثقافة التي يتوجّه إليْها؛ ومن جهةٍ ثالثة، الاستراتيجيات التحريرية والأفُقُ الثقافي للمترجم. زِدْ على ذلك أنّ الوفاءَ، بالنسبة إليْه، ليْسَ هو نقْل كلمة إلى كلمةٍ تقابلها، وإنّما هو نقْل عالَمٍ إلى عالمٍ. إنَّ الكلماتِ تفْتَح عوالِمَ معيَّنَة، وبالتالي يجب على المُتَرْجِم أنْ يفتحَ العالَمَ نفْسَه الّذي فتحه المؤلف، وإنْ بكلماتٍ مُخْتلفة. فالمُتَرجِمُون لا يزِنونَ الكلمات بقدْرِ ما يزنون روحَ النُّصُوص. وفي هذا الانْتقال من عالَمٍ إلى آخَر، يقومُ كُلُّ شَيْءٍ على آلية التّفاوض.


الكاتب : مصطفى النحال

  

بتاريخ : 10/03/2023