عشر أطروحات حول الحياة اليومية 1/2

1

نلج الحياة اليومية كركح مسرحي، نندغم فيها باعتبارنا مادتها الأساس، لكن المادة المواد لا تنعلن/ تتمدى داخلها إلا حين تصير الآخر/الآخرون، داخل النظام العلائقي، المادي، الرمزي الذي ينتظم اليومي، ويؤسس لنسيجه.
تنعلن الحياة اليومية انطلاقا من ذلك، باعتبارها الدال الكبير أو نسيج الدوال الذي يحكمنا انطلاقا من برانيته المادية، ومن اضطلاعه بمسؤولية أن نكون نحيا داخله/ انطلاقا منه، تماما كالطرح الفوكوي للعلاقة بين الانتظام والحرية الذاتية، حيث نخضع لماكنة انتظامية ونمنحها باعتبارها الآخر الكبير مسؤوليته الإشراف على السير العادي للأشياء، وضمانه، لتترك لنا حيزا هاما وضروريا لممارسة حريتنا أو ما نظنه كذلك، باعتبار هذه الممارسة بالذات طيفية في جانب كبير منها.

2
تضعنا الحياة اليومية دوما وباستمرار في مواجهة هذا الانزياح بين الذات/الذوات والدال الدوال التي تمارس الفعل عوضا/ بالنيابة عنا، لنلفي أنفسنا منخرطين في مكائن تدليل (من الدلالة) صلبة وبارانوية، منهمكين في السير وفق خطوط منرسمة سلفا أمامنا ليصير الدال/الدوال الأطياف التي تقول أنماط وجودنا، أو السيمولاكر الوجودي أي تلك الأشكال من التنميط الوجودي البارانوي التي فيها نكون دون أن نكون (نوجد) بها. إنها أشبه ما تكون بانقذاف في برانية تقول/تنتج دال/ دوال جوانيتنا الطيفية في تلك المنطقة البينية التي يصير داخلها التحيين الوشيك للممكنات ضربا من ضروب الخيال. اللافت للنظر أننا نكون داخل زخم الحياة اليومية فوق ركحها المسرحي داخل «مسرح بلا مؤلف»، مندغمين في «السيرورة بلا ذات»، لأننا نكون مادة المسرح ومؤلفوه. لا تمنحنا الحياة اليومية اليقين، بل أقصى درجات الشك في الوجود، في جدواه وإنتاجيته ومآليته. إنها «محل الشك» تماما كما لو أننا في لحظة عارمة من الشفافية الأنطولوجية نقف في موقف الاختيار (هل هو اختيارنا فعلا؟) لنكتشف بأنهم كلهم مرضى. اللافت للنظر أيضا هو أن كل أرتال البداهات التي تسيج بها الحياة اليومية، لا تعني بالضرورة أنها كائنة مشتغلة بالفعل، إذ كيف يوجد هذا الركح المسكون من طرف الأطياف، وهل يمكن أن يستمد جدواه من شرعية طيفية؟. إنه صخب اليقين والبداهة ذاك الذي تنسكن به/ تحيط به الحياة اليومية نفسها، صخب ناهض على التفادي الدائم لحدة الأسئلة، صخب باثولوجي يسكن التمظهرات اليومية، حيث تنفقد الألوان والنكهات، والنبرات والتمايزات، وتنتضد الجدران المحاكاتية للأنا، نوعا من الأنا المشروخة والسديمية التي تتعايش في جوانيتها المشروخة حياة الجماعة والعلاقات الاقتصادية، والظواهر الفرجوية الاستهلاكية، والسلوكات الماكنية التي أصبحت تتخذ الآن أو تتلبس شكل الماكنة المعلوماتية وشبكات التواصل الاجتماعي، كما تتعايش أيضا تمظهرات أخرى رمزية ولا جسدية كالظواهر الفنية والدينية. هذا التساكن والتعايش السديمي هو بالذات ما ينتج الغموض والالتباس حتى بصدد هذا الذي سميناه «المسرح بلا مؤلف» أو «السيرورة بلا ذات»، لأنه يمنحنا الحياة اليومية لا كدرجة صفر للتذويت، بل كدرجة قصوى للتكثيف والحدة. عبر المرور من هذا التجذر السديمي في تربة الحياة اليومية، وعبر هذا التأرجح الخطير، يصير شيء ما ممكنا، وتتبدى / تتمدى بضع تشابكات/تقاطعات أنطولوجية، وتنبجس تكوينات وجودية سيرورية، تقول (ولو وفق نمط تعبير طيفي) كل غنى التجريب الأونطلوجي الذي نلفي أنفسنا داخله/مضطلعين به رغما عنا.

3
لا يتأرجح هذا الكون السديمي الذي تنتجه والذي هو السمة الأساس للحياة اليومية بطريقة آلية بين الوجود والعدم، النظام والفوضى، بل يهتز/يقفز/ يبرعم في/ انطلاقا من حالات الأشياء/الأجساد/البؤر الوجودية التي تستثمرها هذه الذوات الطيفية أحيانا وتستعملها كدعامة/ دعامات للاستيطان أو للترحيل خارج المعسكرات اليومية المحاطة بالسياج. هكذا نكون بصدد سرعات لا نهائية مسكونة بسرعات نهائية كبيرة، بصدد سيرورة تحول من الفرضي إلى الممكن، من المرجإ إلى المختلف، بحيث تستدعينا الحياة اليومية في طيفيتنا/ وانطلاقا منها كما لو أننا ذوات بالفعل، وفق نمط الاستدعاء الإيديولوجي للذوات الذي تحدث عنه ألتوسير في مقاله الشهير عن الأجهزة الإيديولوجية للدولة. إنه استدعاء الذوات/الأطياف المسكونة بصنمية أنشطة إنسانية تتجاوزها وبثقافة معممة تتحول إلى معرفة زائفة للحياة الاجتماعية.
نلج الحياة اليومية كركح مسرحي، لكننا داخل هذه المسرحة الاجتماعية نظل أسيري الفصل المنهجي بين الممثلين والمتفرجين (نمثل أدوارا نكون في الآن نفسه المتفرجين عليها، انطلاقا من المسافة التي يفرضها علينا منطق الفصل البارانوي بين الوضع الاعتباري للممثل والوضع الاعتباري للمتفرج).

4
هذا الفصل بالذات هو ما يحول الحياة اليومية إلى نوع من الفرجة المعممة، ويخلق تلك الغرابة المقلقة التي يشوبها ذلك الإحساس بالعجز، الإحباط والسلبية، لأن الرغبات الأصيلة لا يمكنها التحقق إلا انطلاقا من العامل الوحيد المهيمن في المقام الأخير، والذي هو الاستهلاك الرأسمالي المعمم الذي يفرض على الذوات/الأطياف اختزال رغباتها، عبر تنظيم وإشباع حاجات مصطنعة، تظل دوما مجرد حاجات عاجزة عن الارتقاء إلى مستوى رغبات حقيقية وفعلية. إذا ما أردنا القيام بنقد جذري لهذا الركح، حيث تشتغل الحياة اليومية كفرجة دائمة، فلا بد من الاشتغال بفعالية على الوحدة الممكنة للواقع الإنساني كمعنى وكتجسيد مادي فعال وملموس، أي نقد ومقاومة التمثلات الجديدة التي تمنحها الرأسمالية للعالم، عبر ثقافة مستلبة، والرنو لتحقيق سياسة ثورية يكون مادتها الأساس شكل للممارسة التجريبية للحياة المتحررة عبر صراع منظم ضد عاملين بارانويين :
1 – النظام الرأسمالي الذي حول كل مظاهر الحياة الاجتماعية إلى سلعة.
2- التمثلات والتأويلات الارتكاسية للحياة انطلاقا من مرجعية لاهوتية محافظة.
إن المهمة الأساس التي تعتبر نفسها ثورية بالفعل هي التي لا تفصل بين نقد تدبير وتنظيم الإنتاج المادي وتدبير الإنتاج اللامادي، بحيث يصير ممكنا بالنسبة لكل ذات على حدة (الذات الفعلية/الملموسة لا الذات/الطيف)، أن تبني حياتها الخاصة. يفترض ذلك بالضرورة أن يتحرر الناس موضوعيا من ماكنة الاسر المرتبطة بحاجات فعلية ملحة (مثل البؤس المادي والجوع مثلا إلخ…) وأن يتمكنوا من أن يطرحوا أمامهم إمكانية تحقيق رغباتهم، بدل التعويضات الآنية الزائفة، وأن يرفضوا السلوكات التي يحاول آخرون فرضها، بحيث لا يصير مضمون الحياة بالضرورة الحفاظ على نوع من التوازن، بل النزوع إلى إثراء الأقوال والأفعال بلا حدود. انطلاقا من هذا المنظور النقدي الفعال يصير مستحيلا على الذوات الاستمرار في العيش داخل مناطق الحياة اليومية ومساحتها السفلية كمجرد مهاجرين سريين، بل كرحل يبتكرون ويرتادون أراضي وجودية بكر، رحل لا يملكون الجغرافيا وحدها ولا يكونون فقط خبيرين في ارتياد مجاهيلها والإمساك بموجات العمق التي تمخر قراراتها اللجية، بل يملكون/يندغمون في التاريخ أيضا، رحل خبيرون في الترحيلات الممكنة والقصوى. لا يمكن لسياسة على مقاس إنسانية مغايرة (ننظر هنا لمفهوم «إنسانية» من منظور عملي فعال كمفهوم أنطولوجي صارم) إلا أن تنهض على إلزامات تحول راديكالي للحياة اليومية، أي تكون سياسة للحياة المالكة لقواها والمنسجمة معها والمحايثة لها، لا سياسة الحفاظ على البقاء. لا يمكن للأطروحة القائلة بأن العنصر الموضوعي (أي أزمة البنية الاقتصادية والاجتماعية) أن تكون وحدها كافية لتحويل العالم أو تغييره، لأن الحل الثوري العملي للتناقضات الاقتصادية والاجتماعية، وللمشكلات الإنسانية لا يصير ممكنا إلا حين يرفض الناس كأفراد وكجماعات الاستمرار في العيش والحياة على النمط المألوف والمعتاد، أي أن يكفوا عن النضال من أجل عبوديتهم كما لو أنهم يناضلون من أجل حريتهم، كما ذهب إلى ذلك سبينوزا.

5
لقد كان نقد الحياة اليومية في قلب فكر ماركس الذي تتمثل أصالته ومشروعه البدئي في تحويل الحياة اليومية، لأن تغيير العالم (المهمة المطروحة على الفلاسفة كما ذهبت إلى ذلك الأطروحة الثالثة عشر من الأطروحات حول فيورباخ)، لا يمكن أن يتم ويتحقق بدون تغيير الحياة كل يوم، الحياة الواقعية لا المتخيلة، لهذا السبب يمكن القول بأن الانشغال ببناء دولة تتقمص وتؤمثل المشروع الشيوعي لم يكن الهم الذي انشغل به مارکس بل انشغل به أتباعه ومؤولوه وخصوصا محترفي السياسة منهم، لأن الهدف الأساسي والذي هو تحويل الحياة اليومية الذي يتضمن نوعا من الممارسة الثورية الخلاقة التي تتمظهر في الحد الرابط/الفاصل بين الطوبي Utopie والممارسة، هو من فكر ماركس العصب الرئيس والقاعدة التي نهض عليها مشروعان اثنان: الأول ذو طابع إطيقي Ethique يفترض نهاية الدولة ذلك «اللغز الاجتماعي» أو «الوحش البارد» كما سماها نيتشه والتي عكس ما ذهب إليه هيجل، لا تجسد ولا تحقق (أي الدولة) الفكرة الإطيقية لأن الحياة اليومية هي التي ترتقي إلى المستوى الأرفع للإطيقا (الأخلاق في بعدها القيمي والمادي کنجسيد وكنمدجة لأنماط الوجود، عكس الأخلاق La morale الناهضة على قيم مجردة ومتعالية تتحكم في الوجود وتحكم عليه انطلاقا من تأويلها وتمثلها المجرد). أما المشروع الثاني فذو طابع جمالي يطرح في البدء مسألة الفن كنشاط إبداعي يتحقق من خلال تجاوز عنصره المؤسلب (من الاستيلاب) «أي عنصر متميز واستثنائي لأنه منذور لأفراد استثنائيين، وينتج أعمالا متميزة أرقى من الحياة اليومية». يرتبط المشروع الأول (الإطيقي) بالقوى الاجتماعية للإنسان، المستلبة داخل دوائر الدولة والسياسة، ومن ضمنها أيضا الحياة الأخلاقية الموضوعية والحق، وهي القوى التي يجب أن تتحول باتجاه الحياة الخاصة وأن تندغم وتنصهر فيها عبر تحولها. أما في ما يخص المشروع الثاني، فإن القوى الروحية والرمزية للإنسان المتحققة داخل الفن والمستلبة من طرفه يجب أن تعود إلى الحياة العادية وأن تستثمر نفسها داخلها عبر تحويلها وتغييرها. إن نقد الحياة اليومية لا يجب أن يكتفي فقط بإرادة تغيير الحياة العادية يوما بعد يوم، عبر فتحها على التاريخ والحياة السياسية، بل قد تكون مهمته بالضرورة التهيئ لتحول جذري في وجهة النظر اتجاه هذه الحياة وطبيعة تمثلنا لها، بحيث يقودنا ذلك إلى تأكيد عمق ما هو زائف مصطنع ومستلب، وتحليل تراجيديا الفراغ والعدمية، أي الوقوف عند الطابع المزدوج لليومي: جانبه المنفر المتعب والبئيس، أي كل ما هو غير متشكل وجامد، وجانبه المتعذر استنفاده أو دحضه والذي يظل دوما غير مكتمل وفالت من أسر الأشكال أو البني (وخصوصا بنى أو أشكال المجتمع السياسي كما يتجسد ذالك في البيروقراطية والميكانيزمات المرتبطة بطبيعة الحكم والنظام السياسي، بالإضافة إلى الأحزاب). لا ينطرح اليومي إذن باعتباره الوجود القابل للإحصاء والقياس في مجتمع معطى في لحظة معطاة، بل إنه فكرة، طوبى بدونهما لن نستطيع بلوغ الحاضر الخفي ولا مستقبل الكائنات المرئية والمعلنة القابل للكشف والتبيان. إن إنسان المجتمعات الحديثة يلفي نفسه في الآن ذاته طاعنا في اليومي ومنذغما فيه، ومحروما منه، وهنا بالذات أي في غموض وتأرجح واهتزاز هاتين الحركتين معا (الانذغام/الحرمان) تكمن الحياة اليومية وتتجسدن. الانذغام/الحرمان هما نمط وجود الذات/الطيف داخل اليومي، بما هو حيز للامتلاك/اللاامتلاك من طرفها. لهذا السبب نلفي أنفسنا دوما داخل تمثلات إيديولوجية تروم تفسير هذا الاندغام/الحرمان أو العلاقة الملتبسة مع اليومي،بحيث تتعدد الدلالات والتفسيرات بتعدد الذوات/ الأطياف كأفراد وكجماعات، وتنوع مواقفها من اليومي وعلاقاتها به. لكن المشكلة تكمن في أن الواقع لا يتغير مهما تنوعت دلالاته وتفسيراته وتغيرت. إن تغير التمثلات لا ينتج بالضرورة تحولا رادیکاليا. المطروح هنا بصدد هذا النقد، هو فتح اليومي على تصور الممكن، أي الاختيار بين الممكنات، قبل العودة ثانية إلى الحاضر والواقع لامتلاكها والحكم عليها. إنه الاضطلاع الفعال بمعرفة الحياة اليومية، لإيضاح العلاقة الملتبسة: التملك/اللاتملك، الانذغام/الحرمان التي تنتج عنها حالات البؤس الإيديولوجي، والإحساس بالإهانة والعار والاكتئاب والضيق والضجر، وتنتج عنها تلك التمثلات الزائفة التي تدين اليومي وتحكم عليه سلفا قبل معرفته. هناك نوع من التطور اللامتكافئ بين البؤس الذي يطال الحياة اليومية، وجوديا ورمزيا، والإمكانات التحررية للوجود والحياة وهو ما تؤكده ظاهرة الاستيلاب التي تعم مختلف جوانب اليومي. وحدهم الأغبياء يفكرون الثورة كسيرورة بارانوية بانية، صادرة عن الفوق دون النظر في ضرورة إعادة ابتكار الثورة نفسها كمفهوم وكممارسة. لا يمكن الرنو إلى تغيير العالم بدون تغيير الحياة اليومية نفسها. أولا وقبل كل شيء لا يمكن للذوات الأطياف المستعبدة من طرف السلطة المركبة للدوكسا واللاهوت والأسطورة والشعوذة وإكراهات الخنوع والخضوع السياسي والاجتماعي والذهني، أن تمارس الثورة أو تنجزها. لا خلاص للأغبياء والجهلة الذين لا يتصورون شكلا ما لتحررهم، إلا داخل عبر العبودية كذهنية وممارسة جوانية طويلة الأمد، ويتمثلون بشكل زائف، كل طوبي تحررية ممكنة انطلاقا من أخلاق العبيد كمهيمن عليهم أبديين وقدريين. إن نقد اليومي هو ما يمنح ضرورة التغيير والتحول معناها وبعدها الثوري، الذي هو تحويل المعيش اليومي.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 30/12/2022