علاقات المغرب إسبانيا -4- بين الرسمي والشعبي

مظاهر التعاطي الشعبي الاسباني مع المغاربة

يستدعي البحث الوافي والمستفيض في مجريات العلاقات بين المغرب واسبانيا ماضيا حاضرا وآفاقا للمستقبل، بأن لا يقتصر الأمر على الشق الرسمي المرتبط بتدبير الملفات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والمالية وغيرها، بل علينا أن نولي بالغ الأهمية أيضا للشق الشعبي والنبش في تلك الصورة المتجدرة في المتخيل الشعبي القابعة عند كلا الطرفين المغربي والاسباني، على اعتبار أن الشعوب تظل دوما طرفا فاعلا وأساسيا تتأثر وتؤثر في العلاقات بين الدول.

شعب إسبانيا ليس بالغريب أو البعيد عن المغاربة، فالعلاقة بينهما ذات صبغة جغرافية وتاريخية وحضارية وإنسانية، وصلات التعارف بينهما غنية متنوعة متشابكة ومعقدة أيضا. المغاربة قبل غيرهم يعرفون الإسبان جيدا وتجاربهم في العيش المشترك الآمن وفي الحروب متعددة. الإسبان بدورهم يعرفون المغاربة بتاريخهم العنيد والمشاكس في دوامة صراعات متواصلة وتنافس لا يتوقف، استعصى فيها على كل طرف السيطرة والهيمنة المطلقة على الآخر. لذلك ظلت الذاكرة الاسبانية محتفظة بما هو سلبي، مسكونة بثقافة الخوف، القلق، الحذر، المورو، العدو مصدره من الجنوب/المغرب، متناسية أو متغافلة في عبثية عدمية عما هو إيجابي ومستقبلي مع المغاربة. وسأقف قليلا عند جانب من هذه الهواجس الاسبانية لكشف غطائها في محاولة لفهم هذه الصورة الجاهزة عبر مسارات التاريخ الطويل، في علاقات دائمة الاتصال والتباعـد. فكل شيء له سبب:
يظل الفتح الإسلامي بالأندلس وإقامة دولة ذات حضارة راقية امتد إشعاعها عبر العالم آنذاك، وما خلفته من موروث حضاري وعلمي وثقافي وعمراني وفني عريق (711م ــ 1492م)، والدور الكبير والمؤثر الذي لعبه المغرب في هذا الفتح تحت قيادة طارق بن زياد، وفي تثبيت أركان الحكم الإسلامي بالأندلس واستقراره وصموده في وجه الجيوش المسيحية الكاثوليكية، لاسيما في عهد الدولتين المرابطية والموحدية، معارك (الزلاقة، الأرك، العقاب..) حاضرا في ذهنية الإسبان كغزو واحتلال وصراع دامي طويل الأمد. الذاكرة مشوشة مسكونة أيضا بهواجس عودة المغاربة يوما ما إلى الأندلس.
وتحضرني هنا مقولة تاريخية ذات دلالات رمزية عميقة لها علاقة بالمغرب، فهناك ما سمي في تاريخ اسبانيا بوصية الملكة إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة (1451ــ1504) التي تمكنت أن توحد اسبانيا مع طرد المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر ممالكهم. تقول الوصية التاريخية حسب الخبير في العلاقات المغربية الاسبانية الدكتور عبد الواحد أكمير:» من اللازم مواصلة الحذر من المغرب، بل وجوب احتلال أطرافه حتى لا تقوم له قائمة»، وقد ظلت هذه الوصية حاضرة حتى اليوم في أذهان وأجندة السياسيين والعسكريين، كعنصر سلبي أثر على العلاقات بين البلدين منذ قيام الدولة الإسبانية. وبالرغم من أن هذه الوصية صارت متجاوزة من حيث السياق الزمني ومن مخلفات القرن الوسيط، بعد بروز القانون الدولي كعنصر رئيسي لتنظيم العلاقات بين الدول، لكنها لازالت ترخي بظلالها على ذهنية شريحة واسعة من شعب اسبانيا، كرمزية للتحذير من المغاربة.
يحتفظ الاسبان بذكريات مؤلمة مخلفة التباسات مازالت حاضرة، تتعلق بمشاركة الجنود المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية 1936/1939، والتي قادهم إليها الجنرال فرانكو انطلاقا من الأراضي المغربية التي كانت خاضعة للنفوذ الإسباني. وقد خلفت هذه المشاركة صورة قاتمة ومشاعر حزينة عن المغاربة/ المورو، الذين شاركوا في تلك المحنة الاسبانية. والمعروف أن تواجد جنود مغاربة إلى جانب قوات فرانكو، كانت قسرية حين دفع بهم هذا الأخير إلى أتون حرب شرسة ضد شعب اختار الدفاع باستماتة عن نظامه الشرعي المتمثل في الجمهورية. لذلك ظل شبح وجبروت «المورو» راسخا بقوة في أذهان الاسبان مع مرور السنين، باعتبار أن «المورو» العدو القديم، الذي حاربهم ونكل وبطش بهم في ديارهم. فأدت هذه الأحداث إلى انتشار خطاب الكراهية والعنصرية والعدوانية لدى الاسبان ضد المغاربة.
ينزعج الاسبان أيضا ــ بعد أن تحسنت أوضاعهم بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي/ أبو النعمة ــ من فترة اضطرارهم للهجرة إلى المغرب بحثا عن العمل والكسب، عبر منفذي سبتة ومليلية وإلى باقي مدن الشمال والداخل كالرباط فاس الدار البيضاء، فاشتغلوا في تهريب السلع ونقل البضائع والمسافرين، إبان فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ومازالت ذاكرتهم تحتفظ بالألقاب التي تداولها المغاربة عنهم في إشارة إلى أحوالهم المزرية جراء الفقر والعوز:»بورقعة»،»سبليوني الحازق»، «بوشرويط»..
يرى الاسبان كذلك، أن الملك الراحل الحسن الثاني، استغفلهم وتلاعب بهم، عندما استغل فترة تدهور صحة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، وقرب نهاية حكمه (20 نوفمبر 1975)، لتصفية ملف احتلالهم للصحراء المغربية، وذلك بالتعجيل بل الدفع بالرجل المحتضر إلى التوقيع على اتفاقية مدريد في 14 نوفمبر 1975، في غياب أي دور للطبقة السياسية التي استفاقت بعد إعادة تثبيت النظام الملكي والمرحلة الديمقراطية، مع الملك خوان كارلوس في 22 نوفمبر 1975، لتجد أن المغرب سحب البساط من تحت أقدامهم وأنهى ملف المطالبة باسترجاع صحرائه، بعد تنظيم المسيرة الخضراء 6 نوفمبر 1975، وخروج آخر جندي إسباني من أقاليمه الجنوبية.


الكاتب : محمد بنمبارك دبلوماسي سابق

  

بتاريخ : 27/03/2023