يستدعي البحث الوافي والمستفيض في مجريات العلاقات بين المغرب واسبانيا ماضيا حاضرا وآفاقا للمستقبل، بأن لا يقتصر الأمر على الشق الرسمي المرتبط بتدبير الملفات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والمالية وغيرها، بل علينا أن نولي بالغ الأهمية أيضا للشق الشعبي والنبش في تلك الصورة المتجدرة في المتخيل الشعبي القابعة عند كلا الطرفين المغربي والاسباني، على اعتبار أن الشعوب تظل دوما طرفا فاعلا وأساسيا تتأثر وتؤثر في العلاقات بين الدول.
يعتبر الاسبان أن الطريقة التي تمت بها تسوية ملف الصحراء مع المغرب في ظرف شهر واحد في تزاحم شديد لأحداث مؤثرة على مستقبل العلاقات بين البلدين، كانت مشوبة بنوع من الاستعجال والاستغلال وانتهاز فرصة مرور اسبانيا بمخاض سياسي عسير مرتبط بأوضاعها في الانتقال من عهد حكم العسكر إلى النظام الملكي الديمقراطي. ويعتبر الإسبان أن لهم مسؤولية تاريخية على ملف الصحراء وعلى علاقاتهم بساكنة الصحراء، في اعتقاد راسخ لديهم بالرغبة الدائمة في الوصاية على هذا الملف وتدبير شأنه وفق ما تقتضيه مصالحهم.
منذ تلك الفترة ظلت الطبقة السياسية والمجتمع المدني تائهة مرتبكة متدبدبة في مواقفها وتعاطيها مع المغرب في قضية الصحراء، من الانزعاج من طريقة انسحاب اسبانيا/فرانكو، إلى المعارضة والرفض ومعاكسة المغرب إلى الحياد الغامض إلى عدم الجرأة على الإفصاح عن موقف مؤيد للمغرب لاسيما من جهة الحزب الاشتراكي، إلى استخدام القضية كورقة انتخابية وإبداء تعاطف مع جبهة البوليساريو ودعم أطروحة الانفصال من قبل الشارع وأحزاب يمينية وأخرى يسارية وأصوات من داخل الحكومة والبرلمان.
تقمص الانفصاليون دور الضحية واستغلوا النهج والموجة الاسبانية المناوئة للمشروع الوطني المغربي، بالركوب على لوح تعاطف الشارع الاسباني. هذا الفيض في المواقف والتردد والتدافع والانحياز الأعمى انتهى إلى الاصطدام، في أزمة تزييف هوية المدعو ابراهيم غالي ربيع 2021، التي شكلت خطوة إلى الوراء لتفتح الباب أمام خطوتين إلى الأمام في العلاقات بين العدوتين أبريل 2022.
لا ينظر عدد من الأحزاب اليسارية واليمينية وأصوات سياسية وشريحة واسعة من المجتمع المدني في اسبانيا بعين الرضا والطمأنينة، للتوجه المغربي الجديد بالانفتاح على قوى دولية وتنويع شراكاته الإستراتيجية، والدينامية الدولية على صحرائه، والتقارب والتعاون المتنوع المجالات مع إسرائيل لاسيما في المجال العسكري، ثم الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وفسح المجال لكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية باستعمال المياه المغربية في الصيد البحري، وفي إرساء محطات بحرية لمراقبة السفن العابرة، وانفتاحه الواسع على إفريقيا وتوسيع نشاطه الاقتصادي والمالي والتجاري والاستثماري في اتجاه الجنوب، وغيرها من مشاريع التعاون الدولي ذات البعد الاستراتيجي.
وترى تلك المنابر السياسية والإعلامية الاسبانية في توجهات المغرب بأنها منافسة لبلادهم مضرة بمصالحها، لكونها تِؤدي إلى تقوية موقع وشوكة المغرب في شمال إفريقيا على حساب جيرانه، وتعزز مكانته كفاعل سياسي واقتصادي وعسكري بحوض البحر الأبيض المتوسط ومحيطه، وتجعل منه رقما صعبا ذو وزن استراتيجي قادر على فرض أجندته أمام الأوربيين لاسيما فرنسا واسبانيا. في مجملها تصورات فوقية يمني أصحابها النفس بكبح جماح المغرب وتحجيم دوره، ليظل كما كان عليه الحال في السابق، خاضع للهيمنة والسيطرة والاحتواء.
هي تأويلات وهمية وتصورات مزيفة اتخذتها لوبيات سياسية إعلامية مدنية اسبانية مناوئة مسكنا لها تزداد ترسخا، تعمد على تكريس تحريكها واستخدامها على مدار السنة لتأليب الرأي العام المحلي ضد المغاربة ليضل سجين هذه الرؤية، والتي تزداد شرارتها عند الأزمات بين البلدين، وزمن الانتخابات العامة بالبلاد، مع الإصرار المتعمد والتعلق باستحضار ملف الصحراء وفق الطرح الانفصالي، بما يؤجج المشاعر الغاضبة للمغاربة.
آن الأوان كي يتخلص المغاربة والإسبان من نظرتهم القلقة المتوجسة وإزالة الشوائب العالقة بأهداب هذه العلاقة المتعبة عبر فتح الباب لحوار التجديد وتصحيح النظرة ذات الجاذبية السفلى، نحو آفاق المستقبل الواعد، لانتشال هذه العلاقة من التصورات النمطية المزيفة، والارتقاء بها إلى الصورة التي تليق بالشعبين العريقين المغربي والاسباني. فعلى من تقع هذه المسؤولية؟؟؟
دبلوماسي سابق