«على باب مغارة» للأديب السعودي الأستاذ حسن علي البطران شعرية التّكثيف السردي وبلاغة التعبيرِ الرمزي

اِطلعت على المجموعةِ القصصيةِ القصيرةِ جدًّا، الموسومةِ بعنوانِ «على باب مغارة»، وهي المجموعةُ الخامسةَ عَشْرَةَ الصادرةُ للكاتب في جنسِ القصةِ القصيرةِ جدًّا. اِخترتُ لها موضوعًا محدّدًا، وقد تعيَّنَ عنوانه كالتالي:(على بابُ مغارةِ: شِعْرِيَّةُ التكثيفِ السرديِّ، وبلاغةُ التعبيرِ الرمزيّ).
تَوَخَّيْتُ في هذه القراءةِ الاشتغالَ بمقاربةٍ وِصْفِيَّةٍ استنتاجيةٍ، بهدفِ محاولةِ القبضِ على آلياتِ اشتغالِ الكتابةِ السرديّة، كما هي في هذا المُنْجَزِ القَصصيِّ القصيرِ جدًّا، مع التركيزِ على البِنيةّ الفنيةِ الرمزيةِ فيه، باعتبارها بِنْيَةً مُهَيْمِنةً في المتن.
هذه المجموعةُ القَصصيةُ القصيرةُ جدًّا للكاتب «حسن علي البطران»، صادرةٌ عن دار النشر لوتس للطباعة والنشر بالقاهرة سنةَ»2023»، وهي مجموعةٌ تضُمُّ أربعينَ قِصةًقصيرةً جدًّا، كُتِبَتْ على مدى عام كامل، وطولُ كلِّ قِصةٍ منها يتحدّدُ من كلمتين، إلى حدود بضعةِ أسطرٍ، موزعةٍ على 13 إضمامةً قَصصيةً، كُلُّ إضمامةٍ بها ثلاثُ قَصصٍ، ما عدا الإضمامةَ السابعةَ، فقد ضَمَّتْ أربعَ قَصص، وقد تصدَّرَ كلَّ إضمامةٍ تأشيرٌ رقميٌّ، على شكلِ عمليةٍ حسابيةٍ، يتساوى فيها العددُ الأكبرُ منها مع مجموعِ الأعدادِ الثلاثةِ الأخرى، وهي عمليةٌ حسابيةٌ تُحَدِّدُ عددَ الكلمات في قَصصِ كُلِّ مجموعةٍ على حِدَةٍ، وناتجُ عمليةِ الطّرحِ متحققٌ بقيمة الصفر، التي تَدُلُّ افتراضًا على نوعٍ من رَصْدِ قِيمٍ سَلْبِيَّةٍ في القَصص كلِّها.
ووقوفًا مِنَّا على عتباتِ المجموعة، نَنْجَذِبُ لغوايةِ قراءةٍ سيميائيةٍ في لوحة الغلاف، وهي قراءة افتراضيةٌ، تحاول بناء تصوّرٍ استباقيٍّ لِمحمولاتِ المتنِ القَصصيِّ المضمونيّةِ، إِذْ هي لوحةٌ احتلَّ فيها السّوادُ مساحةَ الغلافِ كُلِّه، يتوسطهُ بياضٌ أخذَ سمةَ اللونِ الأزرقِ المتدرّجِ بدرجاتٍ متفاوتة،وفي أعلى الغلافِ نُقِشَ اسمُ الكاتب، كما تمَّ التعيينُ التجنيسيُّ للمتن في الأسفلِ، يعلوُه العنوانُ الرّئيسُ، الذي جاءَ بصيغةِ: «على باب مغارة «، وقد أضفى عليه اللّونُ البنيُّ جاذبيّةً ودفئًا، ولوحةُ الغلافِ، على وجه العمومِ، تًرْمُز من جهةٍ إلى طبيعةِ فضاءٍمكانيٍّ، ومن جهةٍ أخرى، ترمُزُ إلى نوعِ من الرهبةِ والغموضِ والدهشة في هذا الفضاءِ افتراضًا.
بالنسبةِ للعنوانِ، من المرجحِ أن البطران اعتمدَ الاستهلالَ بحرف العين،لِما لَهُ من دلالةٍ على الرؤيةِ والإبصارِ، ونشيرُ هنا، بالإشارةِ الافتراضيةِ، إلى الرؤيةِ السرديةِ من الخلف، كما توحي الصورةُ بصريًّا بذلك، وينضافُ إلى التركيبِ السابقِ حرفُ الجرِّ «على»، الذي يفيد الاستعلاءَ، ممّا يُعَزِّزُ الفرضيةَ الابتدائيةَ.
أمّا تركيبيًّا، فشبه الجملة جاءَ خبرًالمبتدإٍ بتقديرِ فاعلٍ محذوف، تقديره «هو»، أو «أنا» العائدُ على الكاتبِ نفسِه، حيث أشار إلى ذاته في إهدائه بالمنصوصِ الجُمْلِيِّ: (إليكَ «البابَ» أُهدي… يا صخرةً تحركتْ من أرضِ النخيلِ وعمقِ الحضارات).
منهجيًّا، يصعب الحديثُ عن المتونِ القصصيّةِ مُفْرَدةً دون الإحاطةِ بعمقها الدلالي، وفَكِّ رموزِها العديدةِ من أجل التوغل في محاولةِ القبضِ على مضامينها، وتيماتها، ورِهاناتها، والتي تَعْرِضُ جملةً من الموضوعاتِ المرتبطةِ بالواقعِ الإنسانيِّ المعيش، وبالوجودِ والمجتمعِ، في مَظْهَرِ تعقيداتِ العلاقةِ بين المرأة والرجل، في المجتمعاتِ العربيّةِ المعاصرة.
تجميعًا منّا للمتفرّقِ في المتن، ومن باب قياسِ الْكُلِّ على الْجُزءِ، سنحاول الوقوفَ عندَ بعضِ النماذجِ القَصصيةِ الْمُعَيّنةِ الزاخرةِ بألوانِ من الاشتغالِ السرديِّ القَصصيِّ القصيرِ جدًّا، وبالرمزيةِ الدالةِ، والموظَّفةِ بشعريةٍ بليغة.
ففي أولِ قصة: «مرآة مشوشة»، المنصوصِ عليها بالجملةِ السردية التالية: (أحبها، أهداها
وردة…أهدته حذاءها)، نجد أن الوردةَ هنا تَرْمُزُ للعطاءِ والسلم، الذي قابله ردُّ فعل المرأة بالعنف، لما يَرْمُزُ له «الحذاءُ»، ويدلُّ عليه مِنْ دلالةٍ على القيمة الوضيعة، وعلى إمكانِ استعماله للرّكلِ والإهانةِ والتحقيرِ، في المتعارفِ عليه عادةً.
جماليًّا، نلاحظ اختيارَ الكاتبِ عنوانًا يوافقُ رهانَ المضمونِ المقصودَ، ويعبر عن وجهٍ من أوجهِ التكثيفِ الدلالي،والإيجازِ في التعبير، وهذا من خَصيصاتِ الكتابةِ القَصصيةِ القصيرةِ جدًّا، ينضاف إلى هذا «بياضٌ»، أو فراغٌ،هو نوعٌ من حذفِ لحظةٍ من المشهديةِ المكثَّفةِ، بغايةِ إشراكِ المتلقي في عمليةِ البناءِ السردي، وتوريطِه في مُتَخَيَّلِ الحالةِ الوجدانية، كما أن تكرارَ فعلِ»أَهْدَى»، في الجملةِ السرديّةِ،قد حقق شعريةَ رسمِ صورةِ الصراعِ الثقافيِّ بين قطبيِ الوضعيةِ السرديةِ: (الرجل والمرأة).
أما في قصة «منى»، فنجدُ نوعًا من أسماء الآلة، منقولةٍ من حقلِ علاماتِ التشوير،بما يدل على مضمون هذا العنوان، في علاقته بالجملةِ السردية: (سألها أيهما الأقرب إلي: الأيمن أم الأيسر…؟)، وقد أجابته:(كلاهما لكَ يا غصنُ من غير شجرتي… صَمَتَ، ونادى: منى)، بكلِّ ما يَرْمُزُ إليه الغصنُ الذي هوالفرعُ من الشجرة الأصلِ الْكُلُّ، حيث يمكن استنتاجُ فائدةِ أهميةِ الأصلِ، الذي يمثل القوةَ والأصالة،ولا يمكن التخلي عنه، فيقتنع الطرفُ الآخر في الرسالةِ التواصليةِ بعد تفكير، ثم يتجه إلى «مُنَاهُ» بحثًا عن مستقبله المرغوبِ الذي يحلم به.
أما من حيثُ جمالياتُ الْعَنْوَنَةِ في مقامِ السردِ، فقد وُضِعَ العنوانُ لخدمة رهانِ المتنِ الحكائيّ، في علاقته بتوظيفِ الحوار ٍالخارجيِّ المباشر، من جهة، والحوارِ الذاتيِّ الداخليِّ غيرِ المباشر، من جهةِ أخرى،مع مراعاةِ دلالةِ البعدِ المجاز يِّ لكلمة «شجرة»، باعتبارها رمزًا من رموز حقل الطبيعةِ الدلالي، ولما لها من دلالاتٍ متعددةِ، تفيد العطاءَ، والْفَيْءَ، والثباتَ، والأصالة.
أما في نصِّ «نتيجة»، فالجملةُ السرديةُ تقول: (وسط أزمة كورونا ترقص العصفورة، تسقط قارورة من تحت جناحيها، تتكسر… تختفي خلف الستارة،كاميرا تَرْصُدُ خطواتِ نتيجةِ الفحص / النتيجة: حامل و عصفورها داخل القفص!!..)، لقد اجتهدتْ عينُ الساردِ لالتِقاطِ مَشْهَدِيَّةِ مكانٍ مُقَيَّدٍ بإكراهاتِ زمنِ جائحةِ كورونا، فالعصفورةُ رمزٌ للمرأة، والمرادُ بالرقصِ الرمزيِّ هنا،هو مقابِلُ ظاهِرِ المعنى المتداولِ للرقص، كإشارةٍ إلى الألمِ وانعدامِ الأمان في هذا الزمن الصعبِ، بسب انكسارِ جناحيها،وهو زوجُها، مما جعلها تختفي من محيطه بسبب الحَجر الصحي، ورغم قوةِ مراقبة الكاميرا، كوسيلةِ وقايةٍ من العَدْوى، حملتِ المرأةُ الفيروسَ، والنتيجةُ كانت بمشهديةِ انحباسِ عصفورِها / زوجِها معها في القفص،الذي هو رمزٌ للحبس المنزلي الاضطراري.
وجماليًّا، نستنتج أن السردَ تقوّى بتوظيف»الكاميرا المحمولةِ»، وهذا تفنّنٌ واضحٌ في انتقاء التعبيرات الاستعارية، لإيصالِ جوهر ٍ رسالةِ الحدث، مع استغلال تقنيةِ»التّناصِّ اللغوي»، الماتحِ لَفْظَهُ من الحقل الديني في توظيف لفظة «القوارير» كنايةً عن رِقَّةِ المرأةِ، وضَعفها البيولوجي.
نفسُ الظواهرِ التعبيريةِ السرديةِ الفنيةِ الشعريةِ، الخاصّةِ ببلاغةِ القصةِ القصيرةِ جدًّا، نلاحظها في قصة «غنوة»، التي تقول جملتُها السرديةُ: (حاورها كلب ها… غنت)، إِذْ للكلبِ، باعتباره رمزًا فنيًّا، حمولةُ دلالةٍ معينةٍ مقصودةٍ لتحقير ِ الرجل، مما يدل عليه سلوكُ «الغناء»، كردٍّ سلوكيٍّ ظاهرٍ منها، يفيد رغبتَها في إبعاده عنها.
وجماليًّا، نلاحظُ أنسنةَ الرمز(كلب) الذي تم توظيفهُ بدلالةِ تشبيهٍ مجازيٍّ، بغاية دفع المتلقي للتأمل في العلاقة اللاإنسانيةِ بين المسيطِر والمسيطَر عليه، وقد راهن الساردُ في تأثيث عمليةِ السرد على جماليةِ البياضِ في فضاءِ الصفحة،هذا البياضُ الحاملُ دلالةَ الصمت، الذي تتبعه ضجة المعنى لدى المتلقي، فتتشكلُ لديه مشهديّةُ التصويرِ القدحيِّ للتبعية والوفاء،التي يقابلها التحقيرُ واللامبالاة.
ونأخذ كآخر نموذج، نصَّ «موز وقفص»، الذي جاء بهذه الجملة السردية: (هجرها زوجها… رقص القرد)، حيثُ هنا إشارةٌ للمرأةِ ضحيةِ الاستغلالِ المشروطِ بهجران الزوج، والْقِردُ في هذا السياق السرديِّ، رمزٌ للرجل الماكر المتدني خُلُقِيًّا، رغم أنه يظهرُ في حالةِ انتشاءٍ زائف.
وجماليًّا، نلاحظ أن الأسلوبَ التعبيريَّ في الجملة السردية وَازَنَ بين البساطةِ وعمقِالرهانِ / الرسالةِ، باللجوء إلى تقنية الأنسنة، لتفجير واقعِ المرأةِ المهجورة،بمقصديةِ فضحِ النظرةِ الدونيةِ الانتهازيةِ الإيروسيةِ،التي يُنْظَرُ بها إلى المرأةِ عادةً.
من خلال هذه القراءة المتواضعة، نَخْلُصُ إلى أن الكاتبَ توفق في التوظيفِ السرديِّ الشعريِّ / الجماليِّ المكثفِ،والتوظيفِ الرمزيِّ عميقِ الدلالةِ، لتعرية واقعٍ خائبٍ، تتخلله أعطابٌ عديدةٌ في العلاقة بين المرأة والرجل، في الوضعية التداولية العربية، ورهانُ الكاتب في هذا بليغ، يسعى إلى الدفع بالمتلقي العربي في «مغارة» التَّدَبُّرِ وإعادةِ النظر في مواقفَ تسيء للإنسان بصفة عامة، وللمرأة التي تعيش على الهامش بصفة خاصة.
والدليلُ على كثافةِ حضورِ «المرأة» في بؤرةِ المتن المدروس، باعتبارها ضحيةً لعلاقات مهترئةٍ سائدةٍ،هو استحضارُها المقصودُ بين ثنايا المتن بنسبة تفوق السبعين بالمائة،بغايةِ تَبْئِيرها،باعتبارها موضوعَ قضيةٍ عامةٍ، تجاهدُ المرأةُ وتكافحُ من أجل تحطيم جدارِ الصمتِ عنها، وعن كلِّ التصوراتِ المروجةِ لفكرة دونيتها في بعضِ القَصصِ الرائجةِ، وفي عامِّ التصوراتِ المجتمعيةِ المتخلفةِ السائدة.
إجمالًا، يمكن القول إِنَّ العنوانَ الرئيسَ لهذه المجموعة القصصية القصيرة جدًّا،كان عَتَبَةً مناسبةً لاكتشاف أغوار «مغارة» النفس البشرية المنبنيةِ على علاقةِ إقصاءٍ، لا علاقةِ احتضان، كما أن ثنائيةَ اللونين، الأبيضِ والأسودِ، بنيتْ على خلفيةِمَقْصِديةٍ واضحةٍ لدى الكاتب، للتلميح إلى توافقِ ظاهري، يستبطنُ صراعًا باطنيًّا مَسْكوتًا عنه، وهذا ما تم الاستدلال على صحته المفترضة سابقاً، فالكاتب له بصمةٌ خاصةٌ في هذه الكتابة عن القضية النسائية الإشكالية.
وقد تفنن الكاتب في رسم المشاهدِ السرديةِ الحاملةِ لقضيةٍ راهنةٍ حارقة، كما تفنن في تمرير الرموز المثيرةِ لأحاسيسَ ومشاعرَ مستهدَفةٍ، بحيث تُرَكِّز كلُّ عمليةِ ترميزٍ على تجسيدٍ معينٍ لحالة اجتماعية ووجدانية خاصةٍ،ومنهُ نستنتج أن المجموعةَ القصصيةَ تُجَسِّدُ ببلاغةٍ فائقةٍ ما تعنيه مغارةُ / دوّامةُ من تناقضاتٍ في واقعٍ مَرَضِيٍّ تعاني فيه المرأةُ العربيةُ من عديد إكراهاتٍ لم يبقَ لها محلٌّ من الإعراب في زمننا هذا.


الكاتب : الناقدة أمنية كانوني

  

بتاريخ : 09/10/2024