على درب الغضب الواعي رواية «الغد والغضب» للكاتبة خناتة بنونة

 

رواية «الغد والغضب» ليست كأية رواية شكلا ومضمونا، مبنى ومعنى. إنها حافلة بالأحداث الاجتماعية الساخنة على أكثر من فضاء زمكاني، وحبلى بالإشارات السياسية، مما يجعلها تصنف ضمن خانة الرواية السياسية من بابها الواسع، بما أن هذا الصنف يتناول ضمن ما يتناوله، الوصف السردي للمظاهرات الشعبية والاحتجاجات المطالبة بالحقوق الأساسية للمواطنين، كحقهم في الصحة والسكن وحرية التعبير وحقهم في التعليم الجيد، بؤرة الرواية الأساس. إنها بركان غضب على نار هادئة، ظلت تعتمل أحداثها على امتداد الرواية وتتفاعل في ما بينها، ومن بين فرث ودم، انتهت بانفجار الغضب الحقيقي على أسس صلبة من العلم والوعي، بما يخدم الوطن وقضية الأمة، فلسطين هاجس الكاتبة في كل منجزاتها الإبداعية. ففي الصفحات الأخيرة من الرواية نجد» يا أمة نامت على احتقارها ألا تستيقظين» 213. فسجن من سجن، لكن لم يثنهم ذلك عن مواصلة النضال. في الصفحة217 على لسان الأستاذة جاء «السجن باب وكلنا داخله. السجن داخل الأسوار خارجها سواء .. ما دام السجن وسيلة فكل الطرق إليه سنسلكها … السجون مفاتيح الشعوب. والشعب العربي يجب أن يكون لسجنه ثمن».
ظلت الكاتبة وفية لخطها في الكتابة، بالتزامها بالقضايا المصيرية الكبرى لوطنها و لقوميتها العربية، دون التفريط قيد أنملة في أدوات صنعتها الروائية، وتقنياتها السردية، وجمالية تعبيرها، من حبكة درامية وقوة لغوية صور بلاغية بديعة، ومهارة عالية في توزيع الأدوار بين شخوصها على اختلاف مشاربهم، وتباين مستوياتهم الاجتماعية والمعرفية، سواء في باحات الجامعة بين الطلبة فيما بينهم؛ سلمى ومحسن وهند وبطلة الرواية هدى باندفاعاتهم الشبابية وعواطفهم الجياشة، وأسئلتهم الوجودية الحرجة بكل جرأة، «في التعليم الجامعي يشعر الإنسان بغتة أنه قد كبر، وأنه يباشر اختياراته مع قدر هام من الحرية» 33 وبين الأستاذة وطلبتها، وكذا شخصية أمها المرأة الخاضعة لسطوة زوجها،
قبل أن ينال منه المرض، لترد له الصاع صاعين، فبدأت تعلن عصيانها وتمردها 147.
توزعت الرواية بين مجموعة من الموضوعات، أوردتها بأسلوب المتحكم في ناصية صنعته، وكعادتها في الكتابة لا تقتصر على رصدها وحسب، بل تتعداها إلى الفحص والتحليل، واقتراح الحلول القابلة للتنزيل، بأسلوب أدبي رفيع، نورد بعضها كالآتي:
ذئاب ماكرة في ثوب حملان وديعة:
مثلت لها بشخصية الأب كما جاء على لسان ابنته هدى، بين ظاهره بلبوس التدين، في حين يظل طيلة النهار يحصي أنفاس الغاديات والرائحات من النساء. كم مرة ضبطته متلبسا ببلواه هاته، فضلا عن ارتباطه بزوجة صديقه أم محسن. الكاتبة ترصد من خلال شخصيته ما يعتمل في المجتمع من تناقضات صارخة، عادة ما تدخل في إطار الطابوهات والمسكوت عنه. شخصية الأب غريبة الأطوار تقول هدى» وبذلك لم يعد أبي أبي: إنه ازدواجية محيرة» 28، «وكان المشهد الذي أضبطه عليه يزرع قلبي بالالتياع: السبحة
والتمتمة ونظرته التي تشع شهوة حارة» فظاهره لا علاقة لها بحقيقته تقول في ص19 «وراودتني رغبة أن أخبرها (أمها) بحقيقة المترهب في مسوح القديسين، فتعرف أي
رجل هو». لتتوصل في ما بعد إلى قناعة فتقول باحتداد: «ومالي أنا ولمفاهيم مجتمع يتبجح كثيرا، فهو يعيش عهارته وينادي بالطهارة» 78
إنه نموذج فقط، وإلا فأمثاله بالملايين ماضيا وحاضرا وأكيد مستقبلا. لا يجد غضاضة أن يزجر زوجته بغلظة وفظاظة لتلزم البيت وينعتها بقلة الحياء، ليخلو له الجو فيمارس رياضته الأثيرة «بالتلصص بنظراته على كثير من الجمالات وبالأخص والدة محسن» 26.
فبلغ الغيظ من هدى مبلغه لتنفجر منتقدة: فكيف يبيح لنفسه الحق في أن يكيل إلي نصائحه، فهل يريد أن ينصحني لأن أكون مثله، أمثل العابد والصابي في آن واحد» ص49.
نموذج آخر، وبلغة ساخرة وثقت لحوار في حافلة ركاب على لسان هدى، مع جليسها بعدما التقت عيناها بعينيه «وكان بدوره يبادلني نفس البصر» 135 اكتشفت في ما بعد أنه فقيه. تطور النقاش ليصل إلى ما لا تحمد عقباه؛ سباب وشتائم.
الكاتبة في هذا الوقت المبكر (1984)، تنتبه إلى خطورة تفشي مثل هذه التناقضات في المجتمع، من قبل البعض ممن يتلفعون بعباءة الدين زورا وبهتانا. ففي ص136 – 137
نجد حوارا ساخنا بينهما إذ»تفحصته، لم يكن فيه ما يصلح للإمامة غير شاربه» فسألته: ماذا تستطيع أن تقول لي عن الأديان .. عن الإيمان بالغيب في عصر التحديات المادية؟ ..
انظر الأئمة يصلون مع مصلين معينين أما أن يحاوروا الفكر فغالبا لا. يا أصوات الدين انفضوا الغبار عن حناجركم ….أجبني ما رأيك في العلاقة بين الدين والحرية؟
فبفنية عالية صورت ما هم عليه من بؤس حال، هؤلاء الذين يتصدرون المجالس بالخطب المكرورة من الأزمنة الغابرة. فماذا يمكنهم أن يتقنوا لما يحاصَرون بمثل هذه الأسئلة الراهنة. أجابها بطريقة فجة: «اسكتي». و لما أصرت على مساءلته بقولها: لا. أجبني فماذا يستطيع الدين في عصر العلم؟ كشر عن انحطاطه قائلا: عليك اللعنة يا… فردت
عليه: جبان. فما كان منه إلا أن يخرج ذخيرته الحية، كعادة مَن على شاكلته، لما تعوزهم الوسيلة: كافرة. ومعروف ما يستتبع الحكم على أحد بالكفر من حدود صالوا في تنزيلها وجالوا، كم من الأبرياء ذهبوا ضحيته، على امتداد تاريخنا الإسلامي الممتد.
نموذج ثالث على ما يعيشه هؤلاء من تناقضات ما أوردته، عبر مسرحية كانت من ضمن ما يقدمه الطلبة خلال الأربعائيات «الإمام الحمداوي»، حول سرقة الأحذية من بيت العبادة. وبعد التحريات، وجدوا أن «الفقيه اللي طمعو ببركتو دخل للجامع ببلغتو» الإمام الملقب بالحمداوي لكثرة لهجه الدائم بالحمد والبسملة والحوقلة، هو اللص. ص155-156.
أكيد إنها إشارات من الكاتبة للانتباه الى أن ظواهر الأمور لا تعكس بالضرورة جواهرها وحقائقها.
القرية .. الكنز المهجور:

عبر مسرحية «يا هاجر الكنز» تعالج قضية ملحة داخليا: مع عدم قيام صناعة حقيقية تبتلع هاته الهجرة وتغطيها» 140. ففضلا عما يجده المهاجر من صعوبات في العثور على عمل يضمن له الحد الأدنى في العيش الكريم، فإنه يصطدم بعادات وتقاليد عليه أن يكتسبها «لا تقرها البداوة في نقاوتها وعذريتها: حينما تعطي المدينة شيئا فإنها تأخذ
أشياء» 140 . فمن خلال الطلبة ممن ينحدرون من البادية، رصدت بعض أسبابها كظلم الحاكم، والوسائل البدائية في الزراعة، وقلة الشغل، واستيلاء أثرياء المدن على الأرض،
وقلة المدارس 75 -76. تذكر الرواية أن الأستاذة استشاطت غضبا، لما أخبرها أحد طلبتها، أن الرجال عندهم يظنون أن فلسطين امرأة قد اغتصبها اليهود، «فأمسكت به:
ومسؤوليتك أنت؟ .. لماذا لا ترد للقرية جميلها، في حين أنك تدرس وتتكون من عطائها .. فأنت ممثلها» ص75.

التعليم درب الغضب الواعي و التغيير الحقيقي:

المفاجأة في الرواية كانت قضية التعليم. تناولتها بشكل مستفيض بأسلوب روائي جذاب، بعيدا عن التقريرية المباشرة. فقد شغلت حيزا هاما في الرواية، بحوالي ستين صفحة تقريبا، من أصل مائتين وعشرين مجموع صفحاتها، باعتباره أساس الغضب الواعي وقاطرة التغيير الحقيقي، «لكن الغضب الارتجالي يحرق نفسه دون بخور» 220. فمقاربتها له، بالنظر لتاريخ كتابة الرواية في بداية الثمانينات، كانت ثورة حقيقية سابقة على زمانها بكثير، تؤكد ما قال لها ذات تاريخ الزعيم السياسي علال الفاسي، في سياق توقيف مجلتها «الشروق»، كتب فيها كبار الكتاب يومذاك «لقد سبقت زمانك بمائة سنة». فما بسطته في منجزها هذا بشأن التعليم، لم يتم إقراره رسميا إلا في السنوات الأخيرة في إطار ما يعرف بالمقاربة بالكفايات، إذ أصبح المتعلم محور العملية التعليمية في جميع محطاتها. فمنه وإليه.
فجل ما ورد في أربعائياتها، هو صميم تحديات القطاع التعليمي. إنها تؤكد على ردم الهوة بين المعلم والمتعلم «مسبقا يجب أن أوضح الصلة بيننا: فنحن أصدقاء، يجب أن نعي ما ينقصنا» ص38. فكانت خطوة الألف الميل نحو الغضب الواعي والغد الأفضل. إنها تصف الوضع وتقترح عمليا ما يجب فعله «صغار في البيت بلا حق في المشاركة، غائبون في الدرس، وهامشيون في المجتمع ..وهل ترانا سنظل محافظين على أسلوب الموت هذا؟» ص31. ثم تضيف قائلة: «فكرت أن أقترح عليكم: لماذا لا تصبحون على الأقل أساتذة أنفسكم؟ أن تكونوا المعلم والمتعلم في نفس الآن» 36. استغربوا لاقتراحها «سرت همهمة وفي الألسنة عقود من الصمت. وأن تدفع الآخر ليكون نفسه، يلزمك الكثير من الصبر والثبات» ص 37.
فعلى هذه الأرضية، بنت صرحها التعليمي إلى أن بلغت مرادها. فالتعليم بالنسبة لها ليس نيلا للشواهد والتربع على كراسي الوظيفة وحسب. بصريح العبارة إنها تؤكد على تجاوز ما ظل سائدا لعقود. في الصفحة 47 لما سألها التلاميذ عن الحفظ كان جوابها القاطع «لا لا، لا للحفظ و لا للسرد. إني أريد مخاض الفكر. أن تبحث، وتجمع، وتكتب ثم تتمكن مما بحثت عنه، لتقوم الذاكرة واللسان بدورهما» إنها تستحضر جيدا خطورة المناهج التي تعتمد على «احفظ واعرض». إنها تعرف أنها لا تهش و لا تنش. إنها تعطيل كامل لحركة عجلة التطور.
بتدرج تابعت مع طلابها لقاءاتها الأسبوعية، ببيداغوجيتها المتقدمة على عصرها. بلغ صداها إلى بقية الطلبة، فبدأوا يتوافدون عليها، فتعيدهم إلى أساتذتهم، مع «حثهم على البحث الشخصي، وإغناء التجربة، والانطلاق من اللاشيء لخلق كل شيء» 106
قال لها مرة أحد مفتشيها، يوم كان المفتش مفتشا. في الصفحة 178 «لقد أحدثت في التعليم، أكثر مما تحاول فرنسا مؤخرا، أن تدخله من ثورة على طرقها التعليمية، وذلك بمحاولة جعل الأستاذ في الظل، ودفع الطالب إلى الأدوار الأولى في الفصول: أنت قد حذفت الأستاذ نهائيا».
لم تتوقف عند هذا الحد، بل اقترحت عليهم تخصيص ساعة للمطالعة الحرة. وحثهم قائلة:
«يجب أن تتسجلوا جميعا في المكتبات العامة» 48، وطلبت منهم في ما بعد أن يطالعوا الجرائد ويستمعوا إلى الإذاعات. إنها تعرف جيدا ما تفعل. إنها تدرك دور هذه القراءة في
خلق الوعي، وتحريك الجماهير نحو الغضب من أجل التغيير. إنها تعرف أن أي تحرك غير مبني على العلم، يقود إلى الفوضى والخراب. تقول «لكن الثورات العربية يقينا كانت هجينة: معانقة الشعارات لا معانقة الشعوب» 219. وبتفاؤل تعلن تحقيق مرادها. إذ تقول:
«وشيئا فشيئا وقفوا على أعتاب ما يشبه اليقظة. فوجدوا أنفسهم في القول والفعل والهدف، ومن تم سهل أهم شيء: لقد سهل البدء». 44
ولحرصها على تأطير طلبتها، كانت تمر بين الصفوف تتفحص الكتب بين أيديهم حتى إذا عثرت على واحد من جملة الكتب التي تغرق السوق «لاستهلاك مراهقة الجيل .. فأثير معه حوارا واضحا..يفهم من بعده، أن عليه أن يحسن الانتقاء» 61.
ولأنهم شباب في عمر التحدي، سرعان ما آتت معهم سياستها التعليمية و التأطيرية أكلها. فقد أخذوا ينشغلون بالمواضيع الحساسة التي تثيرها قراءاتهم للصحافة، فأخذوا ينتقدون المظاهر العامة التي استيقظوا على غشها، وأصبحت لهم القدرة على الربط بين الأسباب والمسببات. الأستاذة عادة ما كانت تتدخل لتوجيههم. تقول واجهني أحدهم ذات يوم
متسائلا: «ألا تريدين أن تجعلي منا أناسا بالسنة؟» فأجابته: «ولكن التهور لا يبني» ورغم ما كانت تقوم به، تقول في ص85 «سؤال كان لا يفارقها: فهل ما أقوم به يحقق تحولا أو تغيرا في الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟ إنها كانت ضد حشوالطالب بالنظريات التي لا طائل وراءها على مستوى الواقع» تقول في نفس الصفحة.
«فعلى الأقل علي أن أكسر الركود، وأهز الرؤوس، وأخلخل الواقع، وأحقق فيهم وبهم منطلقهم، الذي سيفجرون به الوضع العام، وينجزون به التغير الأعم». هذه قناعتها كما
تردد بأنها لا تريد أن تطيل فيهم اللسان، بدون عمل على أرض الواقع و»معانقة التربة والأديم» 92 ذاك كان هدفها الذي أفصحت عنه بصريح العبارة ويعضده عنوان الرواية إذ تقول: «نحن لا نفعل الآن غير أن نجهز على الموت المستبد بالعقول والسواعد و الهمم.. وما سيفعلونه هم بالخصوص هو غدهم وغد أمة. وذلك الغد هو ما سنظل نسعى للقياه» 113 .

خاتمة:

اليوم، بعد حوالي أربعة وأربعين عاما على كتابة هذه الرواية، فما الذي تحقق من غد الرواية وغضبها؟ وما الذي تحقق على مستوى التعليم؟ و على مستوى قضية فلسطين؟ وعلى مستوى الغضب؟ وعلى مستوى رجل التعليم الذي كان يومذاك في شخص الأستاذة، يحمل مشعل التعليم والتأطير وقيادة الجماهير على درب التنوير والتغيير؟


الكاتب : بوسلهام عميمر

  

بتاريخ : 01/10/2021